الاثنين، 4 أكتوبر 2010

التنطير والتأصيل لفقه الأقليات المسلمة



















1- مقدمــة


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى أهله وصحبه وسلم.


وبعد،،،


فبعد الحرب العالمية الثانية، اضطرت أوروبا إلى فتح أبوابها أمام اليد العاملة -خاصة المسلمة- فكانت هجرة المسلمين إلى أوروبا ليسوا فاتحين، وإنما طالبين للعمل، أو طالبين لحق اللجوء السياسي، أو طالبين للعلم والخبرة.


وظهرت المصاعب والتحديات أمام اندماج المسلمين في الحياة اليومية بأوروبا، خاصة مع ظهور الجيل الثاني والثالث، فظهرت الحاجة إلى هذا النوع من الفقه.


فقه الأقليات المسلمة( 1)، وهو فقه نوعي يراعي ارتباط الحكم الشرعي بظروف الجماعة، وبالمكان الذي تعيش فيه، فهو فقه جماعة محصورة لها ظروف خاصة يصلح لها ما لا يصلح لغيرها.


ولعل المشكلة الأساسية التي تواجه الأقليات المسلمة هي عملية "الاجتهاد" بمفهومه العام، الذي هو محاولة تنزيل النص الشرعي، مصدر الحكم في الكتاب والسنة على الواقع، وتقويم سلوك الناس ومعاملاتهم به، ومحله دائماً المكلف وفعله. وهذا يتطلب بعد فقه النص، النظر إلى الواقع البشري وتقويمه، من خلال النظر للنص وكيفيات تنزيله في ضوء هذا الواقع البشري.


فتغير الواقع وتبدل الحال، يقتضي بالضرورة إعادة النظر بالاجتهاد


أو بالحكم الاجتهادي، لأنه يشكل محلاً لتنزيل الأحكام مختلفًا كثيرًا عما كان عليه الحال مسبقًا.


إن هذه الأقليات المسلمة تحتاج إلى فقه خاص، يقوم على اجتهاد شرعي قويم، يراعي مكانها وزمانها وظروفها الخاصة، وأنها لا تملك أن تفرض أحكام شريعتها على المجتمع الذي تعيش فيه، وأنها مضطرة أن تتعامل وفق أنظمة ذلك المجتمع وقوانينه، مع أن بعضها يخالف شريعة الإسلام، وتلك هي مشكلة البحث.


المنهج المتبع في البحث:


وقد اتبع الباحث المنهج الاستدلالي التحليلي، حيث التدليل على كل ما يطرحه من أفكار، مع تحليل ما استقرأه من النصوص والأفكار.


خطة البحث


اشتمل هذا البحث -بعد المقدمة- على النقاط التالية:


 أهداف وخصائص فقه الأقليات.


 مقاصد الشريعة وفقه الأقليات.


 ركائز فقه الأقليات.


 القواعد التي يمكن توظيفها في فقه الأقليات.


 بعض قضايا الأقليات المسلمة.


 نتائج البحث.


2- أهداف وخصائص فقه الأقليات


الفقه الذي ننشده للأقليات المسلمة في أنحاء العالم له أهداف وخصائص يسعى إلى تحقيقها في إطار أحكام الشريعة وقواعدها منها(2 ):


أولاً: أن يعين هذه الأقليات المسلمة –أفراداً وأسراً وجماعات- على أن تحيا بإسلامها حياة ميسرة بلا حرج في الدين، ولا إرهاق في الدنيا.


ثانياً: يساعدهم على المحافظة على جوهر الشخصية الإسلامية المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشئ ذراريها على ذلك.


ثالثاً: أن يمكِّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم.


رابعاً: أن يعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعنا، وبذلك تحقق المحافظة بلا انغلاق، والاندماج بلا ذوبان.


خامساً: أن يسهم في تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات.


سادساً: أن يعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة: الدينية والثقافية والاجتماعية، دون أن يعوقهم عائق.


سابعاً: أن يجيب هذا الفقه المنشود عن أسئلتهم المطروحة، ويعالج مشكلاتهم المتجددة، في مجتمعهم وبيئتهم.


* ولهذا الفقه المنشود خصائص لابد أن يراعيها، حتى يؤتي أكله، ويحقق أهدافه، تتمثل فيما يلي(3 ):


أولاً: هو فقه يجمع بين التراث الإسلامي الفقهي وظروف العصر وتياراته ومشكلاته.


ثانياً: يربط بين عالمية الإسلام وواقع المجتمعات التي يشخص لها.


ثالثاً: يوازن بين النظر إلى نصوص الشرع الجزئية ومقاصده الكلية.


رابعاً: يرد الفروع إلى أصولها، ويعالج الجزئيات في ضوء الكليات، موازناً بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد وبعضها وبعض، وبين المصالح والمفاسد عند التعارض في ضوء فقه الموازنات وفقه الأولويات.


خامساً: يلاحظ ما قرره المحققون من علماء الأمة من أن الفتوى تختلف باختلاف المكان والزمان والحال والعرف وغيرها.


سادساً: يراعي الحفاظ على تميز الشخصية المسلمة للفرد المسلم والجماعة المسلمة، مع الحرص على التواصل مع المجتمع من حولهم، والاندماج به والتأثير فيه بالسلوك والعطاء.


3- مقاصد الشريعة وفقه الأقليات


لاشك أن شريعتنا الإسلامية جاءت بحكم وأسرار وعلل تحقق مصالح العباد في الدين والدنيا، وقد اهتم العلماء ببحث ذلك، وقرروه وأصلوه وبرهنوا عليه باستقراء النصوص والأحكام، يقول علال الفاسي: "المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلِّفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع(4 )".


والمقاصد التي نتعرض لها هنا هي المقاصد التي نرى أنها يمكن توظيفها توظيفاً مباشراً في أحكام تتعرض لها هذه الأقليات المسلمة، ويدخل عليها الحرج بسببها، ومن ذلك:


أولاً: نشر الإسلام وحمل الدعوة وتبليغها.


لاشك أن هذا مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية، دلت لذلك نصوص وتشريعات كثيرة، قال الله تعالى:يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا((5 ، وقال تعالى: ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ(( 6)، وقال رسول الله  : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"( 7)، إلى غير ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث على الجهاد، وترغب فيه وتبين حدوده وأحكامه، وتحث على الدعوة والتبليغ، وقد أخبر  أن هذا الدين سيظهر ولا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا دخله، من حديث تميم الداري قال: سمعت رسول الله  يقول: "ليبلغن هذا الأمر –أي الإسلام- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر" ( 8).


ويمكن توظيف هذا المقصد في حسم الخلاف في جواز إقامة مثل هذه الأقليات ببلاد غير المسلمين، ومن ثم توظيفه في التماس الرخص والسهولة واللين لهذه الأقليات، ما دامت تضطلع بهذه المهمة وتخدم هذا المقصد الشرعي.


ثانياً: ترغيب الناس في الإسلام


يبدو للناظر في الشريعة الإسلامية أن بها مجموعة من الأحكام والتشريعات قصدت الترغيب في الإسلام، وفتحت الباب على مصراعيه لكل من تسول له نفسه الدخول فيه، فتضمن له المستقبل، وتطهره من كل ما مضى، حتى لا يبقى عنده خوف، ولا تقوم أمامه عرقلة، ويفهم ذلك مما يلي:


أ- أن الكافر بمجرد دخوله في الإسلام، تغفر ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، بدليل قوله  : "الإسلام يَجُب ما كان قبله"( 9).


وقد اتفق علماء الأمة على أن توبة الكافر مقبولة مطلقاً، واختلفوا في توبة المؤمن هل قبولها قطعي أو ظني.


ب- أن الكافر إذا أسلم يقر على نكاحه، ولا ينظر في عقده،ولا في صداقه، ولا في حيثية من حيثياته الأخرى، المهم أن لا يكون فيه ما يمنعه في الحال، كالتحريم بسبب النسب أو الصهر أو الرضاع، وأن لا يزيد على أربع، وإذا كان عنده أكثر منهن فليختر أربعاً، كما في حديث غيلان بن أميه حيث قال له  : ”اختر منهن أربعاً وفارق سائرهن" ( 10)،


ج- أن الله سبحانه وتعالى جعل في الزكاة سهماً للمؤلفة قلوبهم وإن كانوا أغنياء.


فهذا يدل على أن الشريعة قصدت إلى ترغيب الناس في الإسلام، فأعطت للداخل الجديد كل الضمانات التي تجعله يطمئن على كل أموره الأساسية.


4- ركائز فقه الأقليات


يقوم فقه الأقليات المنشود على ركائز أساسية يجب أن يراعيها أكثر من غيره، وإن كان الفقه كله في حاجة إليها، منها( 11):


أولاً: لا فقه بغير اجتهاد معاصر قويم.


حيث إن الفقه الذي ننشده للأقليات المسلمة- ليحقق الأهداف والغايات المنوطة به- لا يتحقق إلا من خلال اجتهاد صحيح صادر من أهله في محله.


وإذا كان الفقه كله يحتاج إلى الاجتهاد بنوعيه الانتقائي والإنشائي، فإن فقه الأقليات أشد حاجة، للظروف التي تعيشها الأقلية بين ظهراني أكثرية تخالفها في الدين، وبالتالي في الكثير من المفاهيم والسلوكيات والتقاليد.


وهذا الاجتهاد إنما هو جزء من التجديد الذي حدثنا عنه النبي  حين قال: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)).


والتجديد للدين يشمل تجديد الفقه فيه والفهم له، وتجديد الإيمان به، والالتزام بتعاليمه، والدعوة إليه بلسان القوم والعصر حتى يبين لهم، ولا يتجدد الفقه والفهم للدين إلا باجتهاد معاصر قويم( 12).


ثانياً: مراعاة القواعد الفقهية الكلية.


وذلك بالرجوع والاستناد على تلك القواعد التي أصلها الفقهاء، استمداداً من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والاستدلال منها والبناء عليها، وهي كثيرة، ولها تطبيقاتها المتعددة في الجزئيات والفروعيات العملية المختلفة( 13).


ثالثاً: العناية بفقه الواقع.


ولا يستطيع هذا الاجتهاد المعاصر المرجو أن يؤدي مهمته، ويحقق غايته، ويؤتي ثمرته، إلا إذا ضم إلى فقه النصوص والأدلة: فقه الواقع.


وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- "لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر. فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا.


فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله( 14).


والفقيه الحق –كما قال ابن القيم- "هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع، فلا يعيش فيما يجب أن يكون فقط، بل فيما هو كائن، وبهذا يعرف ما يفرضه الواقع من أحكام، فكثيراً ما ينزل من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى"( 15).


إن واجب الفقيه أن يدرس الواقع دراسة علمية موضوعية، بكل أبعاده وعناصره ومؤثراته، بإيجابياته وسلبياته، ما له وما عليه.


ومن واجب هذا الفقه الواقعي، أو هذا الاجتهاد المعاصر: أن يعرف حقيقة الأقلية المسلمة التي يفتى لها، فلا شك أن الأقليات تتفاوت فيما بينها تفاوتاً بعيداً.


فالأقلية التي يكون معظمها من الوافدين المهاجرين، غير الأقلية التي يكون معظمها من المواطنين الأصليين.


والأقلية المستضعفة غير الأقلية المتمكنة ذات الحال والجاه والنفوذ، والأقلية المحدودة العدد، غير الأقلية الكبيرة.... وهكذا.


رابعاً- التركيز على فقه الجماعة لا مجرد الأفراد:


ومما يساهم في ترشيد فقه الأقليات: التركيز على الأقلية باعتبارهم جماعة متميزة، لها هويتها وأهدافها ومشخصاتها، ولا يمكنها أن تتغافل عنها.


وينبغي لأهل الفقه أن ينظروا إلى هذا الكيان الجماعي وما يتطلبه من مقومات، وما له من ضرورات وحاجات، وكيف تستطيع الجماعة أن تعيش بإسلامها في مجتمع غير مسلم، قوية متماسكة، مؤمنة بالتنوع في إطار الوحدة.


خامساً- تبني منهج التيسير:


وذلك إتباعاً للتوجيه النبوي: حينما بعث الرسول  أبا موسى ومعاذا "رضي الله عنهما" إلى اليمن فأوصاهما بقوله: " يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا"( 16)، وروى عنه أنس: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"(17)، وهذا المنهج هو منهج القرآن الكريم والسنة النبوية، قال تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ( 18_ ، وقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ(( 19)، وقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا(( 20)، وقال : "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" ( 21)، وغير ذلك من النصوص العديدة.






سادساً- مراعاة سنة التدرج:


وينبغي أن يقوم فقه الأقليات على سنة التدرج، رعاية لظروفهم واغترابهم عن المجتمع المسلم، والتدرج سنة كونية وسنة شرعية، فلا مانع أن نتدرج معهم إذا كانت لهم ظروف غير مساعدة.


سابعاً- التحرر من الالتزام المذهبي:


ومن الضروري: ألا يضيق المفتي المسلم على الناس بالتزام مذهب معين،لا يخرج عنه بحال، بل عليه أن يخرج بالناس إلى باحة الشريعة الواسعة( 22).


ثامناً- مراعاة قاعدة: تغير الفتوى بتغير موجباتها:


ومن أعظم ما يقتضى التخفيف والتيسير: أن يكون المستفتى في حال ضعف، فيراعي ضعفه ويخفف عنه بقدره، ولهذا يخفف عن المريض ما لا يخفف عن الصحيح.


والمسلم في المجتمع غير المسلم أضعف من المسلم داخل المجتمع المسلم، ولهذا كان يحتاج إلى التخفيف والتيسير أكثر من غيره.


ومن ذلك ما روي أن عمر بن العزيز كان يقضي –وهو أمير في المدينة- بشاهد واحد ويمين، فلما كان بالشام، لم يقبل إلا شاهدين –لما رأى من تغير الناس هناك عما عرفه من أهل المدينة.


ومن ذلك ما ذكر: أن أبا حنيفة كان يجيز القضاء بشهادة مستور الحال في عهده –عهد أتباع التابعين- اكتفاء بالعدالة الظاهرة، وفي عهد صاحبيه –أبي يوسف ومحمد- منعا ذلك لانتشار الكذب بين الناس( 23).


ويقول علماء الحنفية في مثل هذا النوع من الخلاف بين الإمام وصاحبيه: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان.


5- القواعد التي يمكن توظيفها في فقه الأقليات


إن قواعد الفقه تعتبر رافداً ثراً من روافد الفقه الإسلامي، ومصدراً أساسياً من مصادره، ومنبعاً لأسرار الشرع وحكمه، بها تنضبط الأحكام وبها تناط، وبممارستها تصل أهلية التخرج، والاستنباط.


وهي كثيرة ومرنة، ويمكن توظيف كثير منها في فقه الأقليات المسلمة، وإن كانت تتفاوت في ذلك ظهورًا وخفاء.


وبما أن المقام لا يتسع لتتبع تلك القواعد، فإننا نذكر هنا بعض القواعد التي يمكن توظيفها توظيفًا مباشراً فيما تعاني منه هذه الأقليات مثل:


1- الضرر يزال( 24)


وهي إحدى القواعد الأساسية الخمس التي عليها مدار الفقه، بل فيها من الفقه ما لا حصر له، ولعلها تتضمن نصفه، فإن الأحكام إما لجلب المنافع أو لدفع المضار، فيدخل فيها دفع الضروريات الخمس التي هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهذه القاعدة ترجع إلى تحصيل المقاصد وتقريرها بدفع المفاسد أو تخفيفها( 25).


2- الضرورات تبيح المحظورات:


وهي قاعدة مشهورة مرتبطة بسابقتها، وهي التي ينبني عليها جواز أكل الميتة للمضطر، وإساغة الغصه بالخمر، والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه.


فهي تعتبر من الأصول المحكمة الأصيلة في بناء الفقه الإسلامي، وهي دليل على مرونة الفقه، ومدى صلاحيته واتساعه لحاجات الناس.


3- درء المفاسد مقدم على جلب المنافع:


فيمنع الجار من التصرف بملكه الذي يؤدي إلى ضرر بغيره.


4- إذا تقابل مكروهان أو محظوران أو ضرران ولم يمكن الخروج عنهما وجب ارتكاب أخفهما (إذا تعارضت مفسدتان، روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما):


ويشهد لذلك ما وقع في صلح الحديبية، قال القرافي: "قال بعض العلماء: إنما التزم رسول الله  في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين دفاعاً لمفاسد عظيمة، وهي قتل المؤمنين والمؤمنات الحالين بمكة، فاقتضت المصلحة أن ينعقد الصلح على أن يرد إلى الكفار من جاء منهم إليه، لأنه أهون من قتل المؤمنين، مع أن الله تعالى علم أن في تأخير القتال مصلحة عظيمة، وهي إسلام جماعة منهم، لذلك قال تعالى: لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ( 26)، وقال تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 27)، أي لو تميز الكافرون من المؤمنين( 28).


وقال أيضاً في مناقشته لأخذ الجزية من الكفار: "عادة الشرع دفع أعظم المفسدتين بإيقاع أدناهما، وتفويت المصلحة الدنيا لتوقع المصلحة العليا، ومفسدة الكفر توفى على مصلحة المأخوذ من أموال الكفار، بل على جملة الدنيا، فِلَم أقرهم الشرع على الكفر بهذا النذر اليسير.....؟


وجوابه: أن هذا من باب التزام المفسدة الدنيا لتوقع المصلحة العليا، وذلك لأن الكافر إذا قتل انسد عنه باب الإيمان، فشرعت الجزية رجاء أن يسلم هو


أو أحد من ذريته"( 29).


فهذه القاعدة ميزان دقيق لارتكاب أخف الضررين عند وقوع مفسدتين يراد دفع إحداهما بالأخرى.


5- المشقة تجلب التيسير:


وهي قاعدة مشهورة من القواعد التي عليها مدار الفقه، وقد أصلها السيوطي بقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج( 30)، وهذه القاعدة قال العلماء: "إنها يتخرج عليها جميع رخص الشرع وتخفيفاته"( 31).


حيث تدور عليها جميع الأحكام الشرعية عند حصول المشقة الشديدة وقيام الضرورة الملحة، فهي قاعدة أصولية فقهية مقطوع بصحتها، لتوفر أدلتها من الكتاب والسنة.


وفي القاعدة تفسير للأحكام التي روعي فيها التيسير والمرونة، وأن الشريعة لم تكلف الناس بما لا يستطيعون، أو بما يوقعهم في الحرج، وأن المراعاة والتيسير والتخفيف مرادة ومطلوبة من الشارع الحكيم.


6- ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها( 32) [الضرورات تقدر بقدرها]:


ومن فروعها: أن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر سد الرمق، وأن الطعام في دار الحرب يؤخذ على سبيل الحاجة، لأنه إنما أبيح للضرورة.


وهي قاعدة مهمة، لأنها تضع حداً وتقرر معياراً للتعامل مع الضرورة، كي لا نسرف في اعتبارها فنتجاوز الحد، وهذا موضع تزل فيه الأقدام كثيراً، فهي قيد لقاعدة، (الضرورات تبيح المحظورات).






7- الضرر لا يزال بالضرر( 33) [الضرر لا يزال بمثله]:


أي أن الضرر لا يزال بمثله، ولا بما هو أعظم منه من باب أولى، ولكن يجوز دفع الضرر بما هو أقل منه.


* وكذلك قولهم "يحتمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام"، لأن الجميع يشكلون قانوناً للتعامل مع الضرورات كيف نزيلها، وبم نزيلها، وطريقة الموازنة عند التعارض.


وهذه كلها أمور في غاية الأهمية، إذ لا يمكن أن نجعل اعتبار الضرورات أمراً عائماً لا حدود له ولا ضوابط، ومن ثم يتذرع به كل إنسان إلى ما يريد، فلابد أن تتحقق الضرورة، وبعد ذلك تقدر بقدرها، ولابد من الموازنة بين الضرورات إذا تعارضت، فإذا كان المحتكر يتضرر بجبره على بيع طعامه بالسعر، فإن العامة تتضرر بالاحتكار، فلابد من الموازنة بين الضررين، ولا شك أن ضرر العامة أشد من ضرر شخص واحد، وكذلك بالنسبة للتسعير وغير ذلك مما يتعارض فيه الضرر العام والضرر الخاص.


8- الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة( 34):


وانطلاقًا من هذه القاعدة ُجوزت الإجازة على خلاف القياس، وُجوز السلم كذلك لأنه بيع المعدوم، وجوز دخول الحمام مع جهالة مكثه فيه، وما يستعمل من الماء.


وقال إمام الحرمين: "إن الحرام إذا طبق الزمان وأهله، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلاً، فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة، ولا تشترط الضرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صابر ضرورته ولم يتعاط الميتة لهلك، ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة، لهلك الناس قاطبة، ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدي الضرورة في حق الآحاد، فافهموا ترشدوا"( 35).


9- إذا ضاق الأمر اتسع:


وهذه العبارة أجاب عنها الشافعي في ثلاثة مواضع:


أ- سئل إذا فقدت المرأة وليها في السفر فولت أمرها رجلاً أيجوز؟


فقال: إذا ضاق الأمر اتسع.


ب- سئل عن الذباب يجلس على الغائط ثم يقع على الثوب؟ فقال: إن كان طيرانه ما يجف فيه رجلاه، وإلا فالشيء إذا ضاق اتسع.


ج- سئل عن أواني الخزف المعمولة بالسرجين أيجوز الوضوء منها؟


فقال: إذا ضاق الأمر اتسع.


ذكرها السيوطي في الأشباه والنظائر، ثم قال: ولهم عكس هذه القاعدة


(إذا اتسع الأمر ضاق)( 36). قال ابن أبي هريرة في تعليقه: "وضعت الأشياء في الأصول على أنها إذا ضاقت اتسعت، وإذا اتسعت ضاقت، وجمع الغزالي بين القاعدتين بقوله: كل ما تجاوز حده انقلب على ضده( 37).


ولا يخفى ما لهذه القواعد من وثيق الصلة بمقصد السماحة واليسر، كما لا يخفي إمكان توظيفها واستثمارها في التخفيف من أنواع الحرج التي تدخل على هذه الأقليات في معاملاتها وجميع أحوالها، إن وجد العالم العارف بأحوال هذه الأقليات، القادر على استثمار هذه القواعد، المتمكن من تحديد الضرورات المعتبرة شرعًا والموازنة بينها إذا تعارضت.


6- بعض قضايا الأقليات المسلمة


هناك مجموعة من قضايا الأقليات المسلمة أصبحت تقلق مضجعهم وخاصة مع اليقظة الإسلامية الحديثة، والاهتمام بالمعايير الشرعية وقياس حياة الناس عليها، ونظراً لأن المقام لا يتسع لكل هذه القضايا أو معظمها، فإن الباحث سيختار منها – بناء على أهميتها – على سبيل المثال لا الحصر.


أولاً: المواطنة في الدول غير الإسلامية، ومدى ارتباطها بالولاء لنظام غير إسلامي.


ومفهوم المواطنة:جمع موطن، وهي مأخوذة من الوطن، ولها أصل في القرآن الكريم، بقوله تعالى:لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ( 38) وقد وردت كلمة الدار أو الديار بمعنى الوطن في القرآن ثماني عشرة مرة، منها قوله تعالى: والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ( 39)، وقوله: "فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْدًا مَّفْعُولاً( 40)، وقوله: وأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ ودِيَارَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ وأَرْضًا لَّمْ تَطَئُووهَا ( 41).


وثمة تلازم بين الإسلام كدين ونظام حياة وبين الوطن. وفي السنة جاءت أحاديث تفيد أن الوطن هو موضع الإقامة والمكان الذي ينتمي إليه الإنسان بالمفهوم السياسي. منها ما رواه البخاري عن زيد بن ثابت أن أبا بكر قال له: "إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالقراء في كثير من المواطن"( 42)فهي مكان الإقامة بالنسبة للمقاتلين، وعن عثمان رضي الله عنه أنه صلى بمنى أربعاً، ولم يصل قصراً، لأنها صارت له وطناً ومقاماً.


وقد ذهب فريق من العلماء إلى جواز المواطنة من المسلم في دولة غير إسلامية، متى كان مستمسكاً بدينه، ممكناً من العمل بشعائره، متمتعاً بالحقوق والواجبات. ويؤكد هذا قول الماوردي: "إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة، لما يترجي من دخول غيره في الإسلام"( 43). وكأنى بالماوردي ينظر هنا إلى مستقبل الإسلام خارج أرضه، وبيان أهمية نشره في هذه البلاد، وبذلك يكون البقاء في هذه الديار من الأمور المستحبة – إن لم يكن من الأمور الواجبة – لأن فيه مصلحة، وهذه المصلحة من مقصود الشرع من الخلق وأولاها وهي "حفظ الدين" و ذلك بتبليغه للخلق.


يقول الشوكاني: "..... وإن كانت المصلحة العائدة على طائفة من المسلمين ببقائه ظاهرة، كأن يكون له مدخل في بعض الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو في تعليمه معالم الخير، بحيث يكون ذلك راحجاً على هجرته وفراره بدينه، فإنه يجب عليه ترك الهجرة، رعاية لهذه المصلحة الراجحة، لأن هذه المصلحة الحاصلة له بالهجرة على الخصوص تصير مفسدة بالنسبة إلى المصلحة المرجوة بتركه للهجرة" ( 44). والقاعدة الشرعية تقول: "تقديم المصلحة مقدم على جلب المفسدة، والمصلحة الراجحة مقدمة على المصلحة المرجوحة".


ويقول الشيخ المراغي: "المقيم في دار الكفر لا يمنع ولا يؤذي إذا طبق شعائر دينه، فلا يجب عليه الهجرة، كما هو شاهد من المسلمين المقيمين في بلاد الإنجليز الآن، إلا أن الإقامة فيها ربما كانت سبباً من أسباب محاسن الإسلام، وإقبال الناس عليه"(45 ).


ويقول الشيخ جاد الحق: "إذا أمن المسلم على دينه ومارس شعائر الإسلام في بلد ليس له دين أصلاً أو له دين غير الإسلام تصح إقامته"(46 ).


ومعتمد هذا الرأي، الأدلة الواردة في القرآن والسنة التي تجعل من الأرض التي يجد فيها المسلم ملاذاً له تحميه من العسف والظلم والاضطهاد، ويطيب له المقام فيها، فعليه أن يرحل إليها منها: قوله تعالى: إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وسَاءَتْ مَصِيرًا( 47)، وقوله، يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإيَّايَ فَاعْبُدُونِ( 48).


وقد صح أن المسلمين الأوائل هاجروا من مكة إلى الحبشة، فراراً بدينهم، وأقاموا بها بأمر من رسول الله ، ولم تكن الحبشة دار إسلام ولم يكن أهلها يدينون بالإسلام.


ووفقاً للرأي القائل بتقسيم العالم والديار والأمم، فإن الإسلام يقسم الأمم إلى أمة إجابة وأمة دعوة، والمسلم – بموجب أنه من أمة الدعوة – مطالب أن يتواجد في بلد الإقليم الذي يدعو إليه، ليعلن عن الإسلام، ويبين رسالته في العالمين.


إن المواطنة تعطي شرعية للوجود الإسلامي، وتعترف بالدين الإسلامي داخل الدولة غير الإسلامية، وتضفي عليه حماية دستورية وقانونية تحمي حقوقه وتصون أمانه وأمنه في الدول غير الإسلامية.


والولاء: إنما يكون للإسلام ولهويته وللثوابت القطعية فيه بحسبانها تشكل أصول الإسلام، ومقومات رسالته للإنسانية.


والولاء الممنوع شرعاً: هو موالاة أعداء الله، على حساب الإسلام والانصراف عن أتباعه واتخاذ غير المسلمين نصيراً وعضداً.


وقد قرر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ما نصه: "إن الولاء رباط وثيق، يربط الإنسان بعلاقة خاصة ووشيجة حميمة تنشأ عنه التزامات وحقوق وواجبات، وهذه العلاقة ذات أوجه مختلفة وأبعاد متعددة، فالولاء قد يكون للعقيدة، وقد يكون للنسب والقوم، وقد يكون بالعهد والعقد، وقد أشار القرآن إلى هذه المعاني جميعاً. وأعلى هذه الولاءات منزلة الولاء للعقيدة الذي يدخل فيه الإيمان بأركانه، وما يترتب على ذلك من ممارسة الشعائر، والالتزام بالأخلاق الفاضلة، وهذا الولاء لا يتناقض مع الولاء للوطن الذي يرتبط معه الإنسان بعقد المواطنة، فيدافع عن حوزته ضد أي اعتداء"( 49).


كما أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء قراراً بشأن المواءمة بين التقيد بالثوابت وبين مقتضيات المواطنة: "يقصد بالمواطنة الانتماء إلى دولة معينة أرضاً وواقعاً، وحمل جنسيتها، ويقصد بالثوابت الإسلامية: الأحكام الشرعية الاعتقادية والعملية والأخلاقية التي جاءت بها النصوص الشرعية القطعية


أو أجمعت عليها الأمة الإسلامية، ويشمل ذلك ما يتعلق بالضروريات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.


ومشروعية إسهام المسلمين في غير الدول الإسلامية، من الأنشطة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، التي لا تتعارض مع الثوابت المتقدمة، ولاسيما إذا اقتضت المواطنة ذلك شريطة ألا تهدد هويتهم وشخصيتهم الإسلامية"( 50).


ثانياً: المشاركة في النظام السياسي غير الإسلامي، سواء بالترشيح أو التصويت:


ونقصد بالمشاركة في الحياة أو النظام السياسي: تلك الأنشطة التي يمارسها الأفراد والأحزاب، كالتصويت والسلوك الانتخابي، والمشاركة في الإدارات والمناورات السياسية، وبحث المشكلات المطروحة أمام رجال السياسة وآليات تنفيذ ذلك.


ومن الأدلة النصية على جواز ذلك، قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: " قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ولا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ"(51 ).


قال الألوسي عند تفسير " اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ" فيها دليل على جواز طلب الولاية، إذ ا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة وإن كان من يد الكافر أو الجائر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقفت على ولايته إقامة واجب مثلاً، وكان متعينا لذلك( 52).


وقد شارك يوسف عليه السلام فعلا في الحكم في مجتمع مشرك، لا يقوم الحكم فيه على قواعد الإسلام، ويقول المودودي: "ومما يستدل منه على أن اشتراك المسلمين وحتى الأنبياء عليهم السلام في نظام حكومة غير إسلامية، أمر جائز مشروع، وليس ذلك فحسب، بل هو فرض كفاية في بعض الحالات، لأن طلب يوسف من فرعون مصر أن يكون على خزائن مصر برغبته، دليل على أن هذا السلوك لم يكن جائزاً مشروعاً فحسب، بل كان يعده واجباً عليه، وإلا لما طلبه من فرعون، ودعم طلبه بقوله عن نفسه "إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ"( 53).


ولا يقال: بأن الآية تتكلم عن شرع من قبلنا، أما في شرعنا فالأمر مختلف، فلا يجوز تولى ولاية في ظل حاكم كافر أو مسلم جائر، لأن هذا مردود من جهة، أن شرعنا وشرع يوسف عليه السلام وجميع شراع الأنبياء متفقة على حاكمية الله تبارك وتعالى، وأنه ليس لأحد الحق أن يحكم بغير شرع الله، فحين تولى الوزارة لم يناقض هذه العقيدة شيء، ولم يكن مخطئا حين عمل بالوزارة، لأنه نبي معصوم( 54).


والخلاصة أن الدليل من القرآن قد قام على جواز تولي الرجل المسلم ولاية من الرجل الجائر أو السلطان الكافر، وقد سلم الدليل عن المعارض.


أما الدليل من السنة فيتمثل في موقف النجاشي الذي ظل حاكماً على نظام يحكم بغير شريعة الله بعد ذلك، ومع ذلك اعتبره النبي  رجلاً صالحاً، وصلى عليه بعد موته، ولم يخطئه في فعله، ومما يشهد بإسلامه: حديث البخاري الذي فيه أنه عليه السلام حين بلغه وفاة النجاشي قال: "مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة"( 55). وقد وصفه ابن حجر بأنه "كان رداء للمسلمين نافعاً"( 56).


وقد ساق الدكتور عمر الأشقر مجموعة من الأدلة على أن النجاشي لم يحكم في قومه بشريعة الإسلام منها" قوله في رسالته إلى النبي  "فإني لا أملك إلا نفسي"، ومنها: أن قومه قد خرجوا عليه يريدون خلعه، فنصره الله على خصمه، وكانت حجته على قومه أنه لم يغير، ولم يبدل مما عرفوه عنه، مع أنه اعتقد بالإسلام باطناً، وبعث يعلم  بمعتقده"( 57).


وقال ابن تيمية:"والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيراً ما كان يعين الرجل من المسلمين ...... وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، ولا يمكنه ذلك، بل هناك ما يمنعه عن ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها... فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا بشرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالشرائع التي يمكنهم الحكم بها"( 58).


إن من يشارك في وزارة أو إدارة سياسية من الدعاة المخلصين وهو يقصد العدل والحق وتطبيق ما يمكن تطبيقه من أحكام الشريعة، ولو كانت مشتملة على ظلم ومخالطة حتى تولاها شخص قصده بذلك تحقيق الظلم فيها،وحماية مصالح المسلمين فإنه بذلك لا يعد وليًّا للظالمين، وإنما هو ولي المؤمنين، يحبهم وينصرهم إما بإيصال الحقوق إليهم أو بإنصافهم، أو بدفع الظلم عنهم، "فالولاء معناه النصرة والمحبة والاحترام، والركون إلى جانب المحبوبين من المؤمنين ظاهراً وباطناً"( 59).


ولا تكون المشاركة في الوزارة ركوناً إلى الظالمين، "لأن حقيقة الركون: السكون إليهم والرضا بحكمهم والميل إليهم"( 60)، وليس هذا من باب المداهنة، والمداراة على حساب دينه.


وفي هذا الإطار يفهم قول العز بن عبد السلام: "ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك جلباً للمصالح العامة، ودفعاً للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده، تعطيل المصالح العامة، وتحمل المفاسد الشاملة لفوات الكمال في من يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها"( 61).


كما أن الشيخ محمد عبده في جوابه على سؤال مضمونه "هل يجوز للمسلم المستخدم عند الإنجليز الحكم بالقوانين الإنجليزية وفيها الحكم بغير ما أنزل الله" فأجاب بالجواز وقال: "وعلى من أقام أن يخدم المسلمين قدر طاقته ويقوي أحكام الإسلام بحسب استطاعته، ولا وسيلة لتقوية نفوذ الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين مثل تقلد أعمال الحكومة.......والظاهر أن ترك أمثاله من أهل الخبرة للقضاء وغيره من أعمال الحكومة تأثماً من العمل بقوانينها، يضيع على المسلمين معظم مصالحهم في دينهم ودنياهم، وما نكب المسلمون في الهند ونحوها، وتأخروا إلا بسبب الحرمان من أعمال الخدمة"( 62).


وعليه فإذا كانت المشاركة محققة لمقصود الشارع بحفظ دين المسلمين، بحسب ما يغلب على الظن، أو بحفظ حقوقهم وحرياتهم، ووجد القادر على القيام بأعبائها وهو القوي الأمين، فإنها تكون واجبة كفاية أو عيناً أو مندوبة، وينبغي دعمه ومساعدته، أما إذا كان وسيلة غير فعالة في تحقيق ذلك، بحسب ما يغلب على الظن، أو بحكم الاعتياد والتجربة، أو كانت مفاسدها أكبر على المسلمين، فإن المشاركة ممنوعة شرعاً.


ثالثاً: شراء المسلم في الدولة الأجنبية لبيوت أو مساكن بفوائد بنكية.


تعرض للمسلم في وجوده بالدولة الأجنبية مسألة البحث عن مسكن أو بيت يقطن فيه أو يتخذه محلاً للإقامة، وهنا يواجه نظام تملك العقارات في الدول الغربية، حيث يتم هذا التملك عن طريق شراء البيوت بالقرض الربوي، مما يتطلب التعرف على حكم هذا النوع من التعامل.


وتتنازع مسألة شراء المسلم لمسكن في دولة غير مسلمة وجهتا نظر متقابلتان:


إحداهما: تذهب إلى أن هذا التعامل من قبيل المعاملات الربوية الحرام، مستدلاً بعمومات النصوص المحرمة للربا في مثل قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾( 63) وهو ربا النسيئة المتضمن للبيع الذي تمارسه البنوك بزيادة نظير الأجل، وهو منهى عنه.


وقول رسول الله  "لا ربا في النسيئة"، وهذا الربا الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم عرفة لما قال: "ألا إن كل ربا موضوع، وإن أول ربا أضعه ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله" ( 64).


إن من الفقهاء من يرى إدراج مثل هذه الصورة ضمن ربا الجاهلية المحرم، وأنه يعد من أصول الربا وتحريم التعامل فيه من باب المقاصد، يقول ابن رشد في باب (بيوع الذرائع الربوية): "والصورة التي يعتبرها مالك في الذرائع في هذه البيوع، هي أن يتذرع منها إلى: أنظرني أزدك، أو إلى بيع مالا يجوز متفاضلاً، وبيع ما لا يجوز نساء، أو إلى سلف، أو إلى ذهب وعرض بذهب، أو إلى ضع وتعجل أو إلى بيع الطعام قبل أن يستوفي، أو بيع وصرف، فإن هذه هي أصول الربا"( 65).. ودلالة ذلك على حرمة شراء المسلم لمسكن بفوائد بنكية، جليّ يستمد سنده من نصوص القرآن والسنة وأقوال الفقهاء.


إزاء ذلك فإن الأمر يستدعي عدم انتهاج هذه الوسيلة في شراء البيوت، والبحث عن استخدام بدائل أخرى ترتكز على سند شرعي أو وجه فقهي يقدم حلاً سائغاً مقبولاً من الناحية الشرعية. ( 66)


ثانيهما: ترى أن شراء المسلم لبيت في دولة غير مسلمة بنظام القرض الربوي جائز شرعاً، كون هذا التعامل، لا ينطبق عليه الربا المحرم قطعاً، على سند من الأدلة الآتية:


1- أن هذه الصورة من التعامل معاملة حديثة لا يصدق عليها وصف ربا الجاهلية أو ربا النسيئة المحرم قصداً؛ إذ أن هذا الربا هو ربا الديون الذي يتاقضى فيه الدائن الفائدة على الفائدة، وهو ربا الأضعاف المضاعفة بحسب وصف القرآن، فهو الربا المركب الذي منشؤه الاستغلال والظلم وخراب البيوت، فإن ربا الجاهلية أو النسيئة الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية كان يحصل بأن يؤخر المقرض الدين ويزيد في المال، وكلما أخره زاده في المال (الفائدة) حتى تصير عنده المائة آلافا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدى من أسر المطالبة والحبس ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين، حتى يستغرق جميع موجوده فيربوا المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع منه يحصل لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر( 67).


2- أن المسلم في تعامله مع البنك، إنما يتعامل في أمر ضروري من ضروريات حياته، فهو لا يستغني عن مسكن يأويه، ويستظل به من قيظ الصيف وبرودة الشتاء، وشأنه مع المسكن شأن حاجته إلى الطعام والشراب والملبس، ومن ثم فإن الحصول على المسكن لازم لحماية نفسه وأهله،ومحقق لمنفعة قطعية لديه، وإذا كان ثمة شبه ربا في هذا التعامل، فإن المصلحة في تحصيله راجحة، وعلى حد تعبير ابن تيمية، فإن: الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتبطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيلها أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع( 68).


3- أجاز الفقه الحنفي التعامل في الربا بين المسلم وغير المسلم في دار الحرب، في غير دار السلام، ودليله ما رواه مكحول عن رسول الله  قال: [لا ربا بين المسلمين وبين أهل الحرب في دار الحرب]، وهذا الحديث وإن كان مرسلاً فمكحول فقيه ثقة والمرسل من مثله مقبول، وهو كما يقول السرخسي دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.. وقال محمد: "وبلغنا أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى: الّـم * غُلِبَتِ الرُّومُ ( 69). قال له مشركو قريش إنهم يرون أن الروم ستغلب فارس، فقال: نعم، فقالوا: هل لك أن تخاطرنا على أن نضع بيننا وبينك خطراً، فإن غلبت الروم أخذت خطرنا، وإن غلبت فارس أخذنا خطرك، فخطرهم أبو بكر – رضي الله عنه – على ذلك، ثم أتى النبي  وأخبره فقال: "اذهب إليهم فزد في الخطر وأبعد في الأجل"، ففعل أبو بكر – رضي الله عنه – وظهرت الروم على فارس، فبعثوا إلى أبي بكر أن تعال فخذ خطرك، فذهب وأخذه، فأتى النبي  فأمره بأكله، وهذا القمار لا يحل بين أهل الإسلام، وقد أجازه رسول الله  بين أبي بكر- وهو مسلم – وبين مشركي قريش؛ لأنه كان بمكه في دار الشرك حيث لا يجري أحكام المسلمين( 70).


4- أنه على القول بتحريم شراء البيوت بقرض ربوي حرمة قطعية فإن إجازة التعامل فيه تكون بناء على حال الضرورة؛ تطبيقاً لقاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات"، المبنية على قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 71). وهذه الضرورة هي التي ترخص أكل الميتة والتلفظ بالكفر عند الإكراه الملجئ والقلب مطمئن بالإيمان؛ تطبيقاً لقاعدة "ما كان محرماً لذاته يباح للضرورة، وما كان محرماً لغيره يباح للحاجة"( 72). ولا شك أن تحصيل منزل للسكنى من قبيل الضروريات والاحتياجات الأساسية للمسلم، فيكون التعامل فيه جائزاً.


وقد نهجت المجامع الفقهيه – في بيان الحكم الشرعي على القرض بفائدة – إلى اتجاهين:


الاتجاه الأول: يتجه إلى التعميم في الحكم، والاعتصام بالرأي القائل بتحريم كل صور الزيادة على أصل القرض، واعتباره من القرض الربوي الذي يقع تحت طائلة عموم النصوص المحرمة للربا، وأطلقت القول في ذلك دون بحث ظروف الواقعة وطبيعة المسألة التي من أجلها كان القرض، ونموذج ذلك الفتوى التي أصدرها بالإجماع علماء المسلمين المشتركين في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية عام 1965م، وجاء نصها: الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي، وكثير الربا في ذلك وقليله حرام، والإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا حرام كذلك، ولا يرفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقرير ضرورته( 73).


كما أفتى مجمع الفقه الإسلامي – المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي: بأن كل زيادة (أو فائدة) على الدين الذي حل أجله، وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد، هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً(74 ).


الاتجاه الثاني: ذهب إليه المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ونحا فيه إلى بحث واقع الجاليات الإسلامية في الغرب، والنظر في ظروف المسلمين وهم أقلية في هذه المجتمعات والاعتبارات التي تلجئهم إلى شراء بيوت للسكن بقروض مصرفية بفائدة.


ومما جاء في الفتوى: أن المجلس – في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية – لا يرى بأساً من اللجوء إلى هذه الوسيلة وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكنه من شرائه بغير هذه الوسيلة.


وقد اعتمد المجلس في فتواه على مرتكزين أساسيين:


المرتكز الأول: قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات": وهي قاعدة متفق عليها مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع: منها قوله تعالى: وقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ ( 75). ومنها قوله تعالى في نفس السورة بعد ذكر محرمات الأطعمة: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولا عَادٍ فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 76).


ومما قرره الفقهاء من أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة خاصة كانت أو عامة... والحاجة هي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج، وإن كان يستطيع أن يعيش، بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها، والله تعالى رفع الحرج عن هذه الأمة بنصوص القرآن، كما في قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ( 77). وقوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ( 78) والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرج هو المسكن المناسب له في موقعه، وفي سعته وفي مرافقه بحيث يكون ساكناً حقاً7

وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة، أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، فإنه لم ينس القاعدة الأخرى الضابطة والمكملة لها، وهي أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، فلم يجز تملك البيوت للتجارة ونحوها، والمسكن – ولاشك – ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة، كما أنه يمكنه أن يختار المسكن قريباً من المسجد والمركز الإسلامي والمدرسة الإسلامية ويهيئ فرصة للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها عسى أن تنشيء لها مجتمعاً إسلامياً صغيراً داخل المجتمع الكبير، فيتعارف فيه أبناؤهم وتقوى روابطهم ويتعاونون على العيش في ظل مفاهيم الإسلام وقيمة العليا.


كما أن هذا يمكن المسلم من إعداد بيته وترتيبه بما يلبي حاجته الدينية والاجتماعية ما دام مملوكا له.


وهناك – إلى جانب هذه الحاجة الفردية لكل مسلم – الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلية خارج دار الإسلام، وهي تتمثل في تحسين أحوالهم المعيشية حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلا للانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، ويقدموا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين؛ كما تتمثل في أن يتحرروا من الضغوط الاقتصادية عليهم ليقوموا بواجب الدعوة ويساهموا في بناء المجتمع العام، وهذا يتقاضى ألا يظل المسلم يكد طول عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه أو نشر دعوته.


المرتكز الثاني: وهو مكمل للمرتكز الأول وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني – وهو المفتى به في المذهب الحنفي – وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي وهي رواية عن أحمد بن حنبل ورجحها ابن تيمية – فيما ذكره بعض الحنابلة – من جواز التعامل بالربا – وغيره من العقود الفاسدة – بين المسلمين وغيرهم من غير دار الإسلام( 78).


ويرجح الأخذ بهذا المذهب هنا إلى عدة اعتبارات منها:


1- أن المسلم غير مكلف شرعا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام؛ لأن هذا ليس في وسعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وتحريم الربا هو من الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي.


وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فرداً، مثل: أحكام العبادات وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية، بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً.


2- أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة – ومنها عقد الربا – في دار القوم سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سبباً لضعفه الاقتصادي وخسارته مالياً. والمفروض أن الإسلام يقوي المسلم ولا يضعفه، ويزيده ولا ينقصه، وينفعه ولا يضره.


وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم في غير المسلم بحديث أبي داود، أن معاذاً قال: سمعت رسول الله  يقول: [الإسلام يزيد ولا ينقص فورث المسلم] أي يزيد المسلم و لا ينقصه، ومثله: [الإسلام يعلو ولا يعلي]، وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها فيما بينهم سيضطر إلى أن يعطي ما يطلب منه ولا يأخذ مقابله، فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم، ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم، فعليه الغرم دائما وليس له الغنم، و بهذا يظل المسلم أبداً مظلوماً مالياً بسبب التزامه بالإسلام، والإسلام لا يقصد أبداً إلى أن يظلم المسلم بالتزامه به، وأن يتركه في غير دار الإسلام لغير المسلم يمتصه ويستفيد منه، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة والمعترف بها عندهم.


وما يقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالربا في حاله الأخذ لا الإعطاء؛ لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء، وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلا بشرطين:


الأول: أن يكون فيها منفعة للمسلم.


الثاني: ألا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم، وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم.


فالجواب أن هذا غير مسلم، كما يدل عليه قول محمد بن الحسن الشيباني في: "السير الكبير"، وإطلاق المتقدمين من علماء المذهب؛ كما أن المسلم وإن كان يعطي الفائدة هنا فهو المستفيد؛ إذ به يمتلك المنزل في النهاية.


وقد أكد المسلمون – الذين يعيشون في الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة – أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقدر الأجرة التي يدفعونها للمالك؛ بل أحياناً تكون أقل.


ومعنى هذا أننا إذا حرمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك، حرمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبر الفقهاء، وربما يظل عشرين سنة أو أكثر يدفع إيجاراً شهرياً أو سنوياً ولا يملك شيئاً، على حين كان يمكنه – في خلال عشرين سنة وربما أقل – أن يملك البيت. فلو لم يكن هذا التعامل جائزاً – على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه – لكان جائزاً عند الجميع للحاجة التي تنزل أحياناً منزلة الضرورة في إباحة المحظور بها.


ولاسيما أن المسلم هنا إنما يؤكل الربا ولا يأكله، أي هو يعطي الفائدة ولا يأخذها، والأصل في التحريم منصب على أكل الربا، كما نطقت به آيات القرآن، وإنما حرم الإيكال سداً للذريعة؛ كما حرمت الكتابة له، والشهادة عليه فهو من باب تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد.


ومن المعلوم أن أكل الربا المحرم لا يجوز بحال، أما إيكاله بمعنى إعطاء الفائدة فيجوز للحاجة، وقد نص على ذلك الفقهاء وأجازوا الاستقراض بالربا إذا سدت في وجهه أبواب الحلال.


ومن القواعد الشهيرة هناك: "أن ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة".


وبالبناء على ما تقدم:


فإن على المسلم أن يتحرى السبل الشرعية الحلال لشراء البيوت في الدول الغربية، من البيع مرابحة أو القرض الحسن أو المشاركة بالطريق الشرعي، فإذا سدت في وجهه هذه السبل فيجوز له شراء بيت يتملكه له ولأسرته بقرض بفائدة؛ درءاً للمفسدة؛ وجلباً للمصلحة في مجتمع غير إسلامي( 79).


نتائـــج البحـــث


وقد توصل الباحث – بعون الله – إلى النتائج التالية:


أولاً: إن وجود المسلمين في أي بلد يجب التخطيط له باعتباره وجوداً مستمراً ومتنامياً، لا باعتباره وجوداً طارئاً أو إقامة مؤقتة أملتها الظروف السياسية والاقتصادية في العالم الإسلامي. ولا حجة في رجوع المهاجرين من الحبشة، لأن الهجرة كانت واجبة في صدر الدعوة وبناء المجتمع الجديد، ثم سقط ذلك الوجوب بالفتح، كما قال : "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"(80 ). كما أن رجوعهم كان مواصلة لهجرة جديدة لأن مكة هي موطنهم.


ثانياً: ينبغي لأبناء الأقليات المسلمة أن لا يقيدوا أنفسهم باصطلاحات فقهية تاريخية لم ترد في الوحي مثل: دار الإسلام، ودار الكفر. وعليهم أن ينطلقوا من المنظور القرآني: " إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ "( 81)، وقوله: " ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"( 82).


ثالثا: من واجب المسلمين أن يشاركوا في الحياة السياسية والاجتماعية بإيجابية، انتصارًا لحقوقهم، ودعماً لإخوانهم في العقيدة أينما كانوا، وتبليغاً لحقائق الإسلام، وتحقيقاً لعالميته.


رابعاً: كل منصب أو ولاية حصل عليها المسلمون بأنفسهم، أو أمكنهم التأثير على من فيها من غيرهم، تعتبر مكسباً لهم من حيث تحسين أحوالهم، وتعديل النظم والقوانين التي تمس صميم وجودهم، بل والتي لا تنسجم مع فلسفة الإسلام الأخلاقية، ومن حيث التأثير على القرارات السياسية ذات الصلة بالشعوب الإسلامية الأخرى.


خامساً: كل ما يعرض على تحقيق هذه الغايات النبيلة من الوسائل الشرعية فهو يأخذ حكمها، ويشمل ذلك تقدم المسلم لبعض المناصب السياسية، وتبنى أحد المترشحين غير المسلمين – إذا كان أكثر نفعاً للمسلمين، أو أقل ضرراً عليهم، فقد أباح الله تعالى برهم وصلتهم دون مقابل، فكيف إذا ترتب على ذلك مردود واضح، ومصلحة متحققة.


سادساً: إن انتزاع المسلمين لحقوقهم في بلد يمثلون أقلية فيه، وتفاعلهم الإيجابي مع أهل البلد الأصليين، يقتضي منهم تشاوراً وتكاتفاً واتفاقاً في الكليات، وتعاذراً في الجزئيات والخلافيات. ولنا في سلفنا من المهاجرين إلى الحبشة أسوة حين اجتمعوا وتشاوروا حول أمثل الصيغ للرد على الموقف الحرج.


سابعاً: يحتاج أبناء الأقليات المسلمة إلى ترسيخ الإيمان بالله، وتدعيم الثقة في الإسلام، حتى لا يدفعهم التفاعل مع غيرهم إلى تنازلات تمس أساس الدين، مجاراة لعرف سائد، أو تيار جارف – وفي رفض الصحابي الجليل جعفر رضي الله عنه السجود للنجاشي – كما فعل خصماه وكما يقضى العرف – أسوة في هذا السبيل.


ثامناً: فقه الأقليات المسلمة: هو فقه نوعي يراعي ارتباط الحكم الشرعي بظروف الجماعة، وبالمكان الذي تعيش فيه، وهذا يتطلب – بعد فقه النص – النظر إلى الواقع البشري وتقويمه، من خلال النظر للنص وكيفيات تنزليه في ضوء هذا الواقع البشري.


********
تفقير البحث




([1]) إن ما يقرب من ثلث المسلمين اليوم يعيشون خارج دائرة العالم الإسلامي الجغرافية (450 مليون مسلم من مجموع ما يقرب من مليار و 350
).


(2) راجع: فقه الأقليات المسلمة – يوسف القرضاوي- دار الشروق- ط (1) 1422هـ/2001م-ص34.

(3) المصدر السابق- ص 35 بتصرف

(4) مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها- لعلال الفاسي- ص7.

(5) الأحزاب (45).

(6) النحل (125).

(7) صحيح البخاري: كتاب الإيمان- باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وكتاب الصلاة-

باب فضل استقبال القبلة. وصحيح مسلم: كتاب الإيمان- باب الأمر بقتال الناس.

(8) مسند الإمام أحمد 4/103.

(9) أخرجه أحمد في مسنده 4/204.

(10) أخرجه ابن حبان في صحيحه 9/463-466، رقم (4156، 4158).

(11) أخرجه أحمد في سنده 4/204.

(12)انظر معالم هذا الاجتهاد: في كتابي الدكتور يوسف القرضاوي، الأول بعنوان (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية)، والثاني بعنوان (الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط).

(13) سيأتي الحديث عنها في ص5.

(14) أعلام الموقعين ج1، ص 87.

(15) المصدر السابق، ج1 ص 88. وانظر تفصيل ذلك أيضاً عند الإمام القرافي في كتاب "الفروق"، وقرره الإمام ابن عابدين في حاشية: رد المحتار على الدر المختار.

( 16) صحيح البخاري: كتاب العلم- باب ما كان النبي  يتخولهم بالموعظة والعلم كيلا ينفروا.

(17) المائدة (6).

(18) البقرة (185).

(19) النساء (28).

(20) أخرجه النسائي: في كتاب الحج- باب التقاط الحصى (5/268) وإسناده صحيح.

(21) ولعل من أبرز مثال لذلك: آراء شيخ الإسلام ابن تيمية في الطلاق ونحوه، فقد رفضها أكثر أهل عصره واتهموه من أجلها بتهم شتى، وحاكمه علماء وقته، ودخل السجن أكثر من مرة من أجل آراءه هذه، والآن نرى كثير من علماء العصر يفتون بها، إذ يرون فيها إنقاذ الأسرة المسلمة من الانهيار بسبب كثرة إيقاع الطلاق، مع حرص الزوجين على بقاء العشرة.

( 22) انظر: أصول التشريع الإسلامي- على حسب الله، ص 84.

(23) نظر: الاشتباه والنظائر – للسيوطي 1/61.

24)( راجع: شرح الكوكب المنير- لابن النجار- ج 4، ص443.

(25) الفتح (25).

(26) الفتح (25).

(27) الزخيره 13/355.

(28) المصدر السابق 3/453.

(29) الحج (78).

(30) الأشباه والنظائر- للسيوطي 1/194، ولابن نجيم ص 84.

(31) ذكرها ابن نجيم في الأشباه والنظائر، ص 95.

(32) الأشباه والنظائر – لابن نجيم- ص 96.

(33) ذكرها السيوطي في الأشباه والنظائر 1/218، وابن نجم ص 100، والمراد بالحاجة هنا: ما كان دون الضرورة، لأن مراتب ما يحرص الشرع على توفيره للإنسان ثلاث: الضرورات والحاجيات والتحسينيات.

(34) الغياثي –للجويني- ص 478.

(35) الأشباه والنظائر- للسيوطي ج1، ص 208.

(36) الأشباه والنظائر- لابن نجيم، ص 93.

(37) التوبة (25)

(38) الحشر (9)

(39) الإسراء (5)

(40) الأحزاب (27)

(41) صحيح البخاري: كتاب تفسير القرآن- باب قوله (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ح (4679)

(42) وينسب هذا الرأي أيضاً في العصر الحديث للإمام محمد عبده، حيث قال بعدم وجوب الهجرة على المسلمين المقيمين في البلاد الأوروبية، لأنهم متحققون من حريتهم الدينية. انظر" تفسير المنار – ج5 ص 291. ومن أنصار هذا الرأي قديما، الماوردي والشوكاني، وحديثا، في الإمام محمد عبده، والشيخ المراغي والشيخ جاد الحق وغيرهم.

(43) السيل الجرار – للشوكاني- ح2 ص577.

(44) تفسير المراغي – ح2 ص 133.

(45) مجلة الأزهر – السنة 63، ص 617.

(46) النساء (97).

(47) العنكبوب (56).

(48) انظر: فتاوي وقرارات الدورة العادية السادسة عشرة، للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ص 302- المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، العددان 10، 11، الجزء الثاني، مايو 2007م، جمادي الأولى 1428هـ.

(49) المصدر السابق ص 303

(50) يوسف (55، 56)

(51) روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني – ج3 ص 5

(52) الحكومة الإسلامية- أبو الأعلى المودودي – ص 65

(53) المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية – عمر الأشقر – دار النفائس، عمان – ص74.

(54) راجع: المصدر السابق، ص 58

(55) صحيح البخاري: كتاب مناقب الأنصاري– باب موت النجاشي – ج (3877) وصحح مسلم: كتاب الجنائز – باب في التكبير على الجنازة – ج (953)

(56) الإصابة في تمييز الصحابة – لابن حجر العسقلاني - ج1 ص 109

(57) مجموع الفتاوي – ص 20 ص 218.

(58) الولاء والبراء في الإسلام – محمد سعيد القحطاني – ص 89.

(59) الجامع لأحكام القرآن – للقرطبي – ج 9 ص 108.

(60) قواعد الأحكام في مصالح الأنام – للغز بن عبد السلام – ح1 ص73.

(61) تفسير المنار – محمد رشيد رضا – ج1 ص 408.

(62) البقرة (278).

(63) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج1ص 1277- 1279.

(64) بداية المجتهد، ج2، ص 142، 143.

(65) مثل صيغ المعاملات الشرعية التي تستخدمها البنوك الإسلامية، مثل: بيع المرابحة للأمر بالشراء، بيع التقسيط، إنشاء بنوك إسلامية في الدول الأجنبية للتعامل في شراء العقارات بدون الحصول على الفوائد الربوية المحرمة.

(66) راجع أعلام الموقعين، ابن القيم. ج2، ص 135، 136، وانظر/ محمد الشحات الجندي، فقه التعامل المالي والمصرفي الحديث، ص 27.

(67) السياسة الشرعية، ص 25.

(68) الروم (1-2).

(69) المبسوط، ج14، ص 56، 57.

(70) البقرة: 173.

(71) فقه التعامل المالي والمصرفي الحديث، ص29.

(72) أبحاث المؤتمر السابع لمجمع البحوث الإسلامية، بحوث اقتصادية وتشريعية، ص 264

(73) قرار المجمع في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10- 16 ربيع الثاني 1406هـ الموافق 22- 28 ديسمبر 1985.

(74) الأنعام (119)

(75) الأنعام (145)

(76) الحج (78)

(77) المائدة (6)

78) راجع: قضايا الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية – محمد الشحات الجندي – ص61

(79) راجع: قضايا الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية، ص 51: 67

(80) صحيح البخاري: كتاب الجهاد – باب فضل الجهاد والسير – ج رقم 2783. وصحيح مسلم: كتاب الإمارة – باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد – ج رقم 1864.

(81) الأعراف (128).

(82) الأنبياء (105).







مصـــادر البحـــث


1- الأشباه والنظائر – لابن بخيم – تحقيق: محمد مطيع الحافظ – دار الفكر، دمشق.


2- الأشباه والنظائر – للسيوطي – دار الكتب العلمية، بيروت.


3- الأقليات المسلمة في العالم: ظروفها المعاصرة، آلامها وآمالها- مجموعة من العلماء – دار الندوة العالمية.


4- أولوية الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة – يوسف القرضاوي – مكتبة وهبة – ط (5)، 1421هـ/ 2001م.


5- التجديد في الفكري الإسلامي – أبحاث المؤتمر العام الثالث عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1423هـ/ 2002م.


6- تفسير المنار – محمد رشيد رضا – الهيئة المصرية العامة للكتاب،


سنة 1972م.


7- الجاليات الإسلامية في أوروبا الغربية، مشكلات التأقلم والاندماج – مجموعة من العلماء – دار النفائس، بيروت.


8- حكم مشاركة الإسلاميين في نظام غير إسلامي- راشد الغنوشي –


منشور في كتاب: مشاركة الإسلاميين في السلطة، لعزام التميمي.


9- الحكومة الإسلامية – أبو الأعلى المودودي – المختار الإسلامي –


ط(1)، 1397هـ/ 1997م.


10- شرح الكوكب المنير- بن النجار – تحقيق: محمد الزحيلي وغيره –


مركز البحث العلمي، جامعة أم القرى.


11- فتح الباري بشرح صحيح البخاري – لابن حجر العسقلاني – تحقيق:


عبد العزيز بن باز – دار الفكر، بيروت.


12- فقه الأقليات المسلمة – خالد عبد القادر – دار الإيمان، طرابلس –


ط(1)، 1998م.


13- في فقه الأقليات المسلمة – طه جابر العلواني – سلسلة في التنوير الإسلامي (52) نهضة مصر عام 2000م.


14- في فقه الأقليات المسلمة – يوسف القرضاوي – دار الشروق، ط (1)، 1422هـ/ 2001م.


15- قضايا الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية – محمد الشحات الجندي – سلسلة قضايا إسلامية (161) – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية عام 1429هـ- 2008م.


16- القواعد الفقهية – على أحمد الندوي – دار القلم، دمشق.


17- مجموع الفتاوى – لابن تيمية – طبع دار الحديث بالقاهرة.


18- مقاصد الشريعة الإسلامية – محمد الطاهر بن عاشور – الشركة التونسية للتوزيع، سنة 1978م.


19- منهاج السنة – لابن تيمية – المطبعة الأميرية، ط (10)، 1321هـ.


20- الموافقات في أصول الشريعة – للشاطبي – تحقيق: محمد عبد الله دراز – دار المعرفة، بيروت.


21- نحو فقه جديد للأقليات – جمال الدين عطية محمد – دار السلام، القاهرة – ط (1)، 1423هـ/ 2003م.


22- النظام السياسي للدولة الإسلامية – محمد سليم العوا – دار الشروق، القاهرة، ط (7)، 1989م.


23- نظرية الإسلام السياسية – أبو الأعلى المودودي – دار العروبة للدعوة الإسلامية، الهند.


24- نيل الأوطان – الشوكاني، دار الفكر، بيروت.


25- الولاء والبراء في الإسلام – محمد سعيد القحطاني – دار المعرفة، 1412هـ.


***********
مليون نسمة

الاثنين، 6 سبتمبر 2010

مبارك عليكم الشهر

يهنئ الاستاذ الدكتور ابراهيم رشاد متابعى الموقع بشهر رمضان المعظم
اعاده الله تعالى على الأمة الاسلامية بالخير واليمن والبركات.

الأربعاء، 26 مايو 2010

عرفته اول ما عرفته


عرفته اول ماعرفته مرشدا ومودبا واستاذا وعالما واا وصديقا فكان بعد ذلك كله حبيبا



طيب القلب نقى السريرة يأخذك بتواضعه الى رحاب السعادة فتجد نفسك اسيرحضرته


ثم لا تجد مقاومة ،تذهب الساعا فى رحاب جلسته كانها ثوانى ،لو انك قضيت عمرك


كله بين يديه ما مللته ولا ملل علمه،عندما يفتح لك قلبه تجد امواجا من الرومانسية المخبأة


تجتاح اساريرك فخضع اسرارك الى قلبه الكبير.


بارك الله فى عمرك يا استاذى العظيم


ولك منى كل الشوق والتقدير.


""علاء صابر







السبت، 30 يناير 2010

بحث فى "السنة النبوية"


1- مقــدمــة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد  وعلى أهله وصحبه وسلم.

وبعد،،

فإن من فضل الله سبحانه وتعالي على عباده، ورحمته بهم، وتمام نعمته عليهم، أنه لم يتركهم لعقولهم، ولم يكلهم إلى ضمائرهم في إقامة أسس صلاحهم في حياتهم، وإرساء قواعد أمنهم، واستقرار وجودهم وسلامة مجتمعهم.

فالعقول متفاوتة، وأسباب انحرافها متعددة، وموازين الضمائر مختلفة تبعاً لاختلاف البيئات وتغاير العادات.

وكثيراً ما تضطرب هذه الموازين أمام نوازع النفوس، وتيارات الأهواء، واختلاف المصالح.

لذلك لم يترك الله سبحانه وتعالي الناس سدي، فما من أمة إلا خلا فيها نذير، أرسله إليهم بشريعته، كما قال تعالي:     ( ).

وعلى هذا أرسل إلينا الرسول محمداً ، وأنزل عليه الكتاب، وخاطبه بقوله        •       ( ).

هذا ومن شريعته عبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالي، وإليه وحده تعريف الناس بوسائل قربه وطرائق رضاه، فإليه بيانها وليس للعقول في ذلك مدخل.

ومن ثم نيط أمرها بما يبلغه رسوله  دون أن يكون للعقل في بيانها وتحديدها مجال.

ومنها معاملة هي الوسيلة إلى حياة سليمة صالحة مستقيمة، خالية من الشرور والفحشاء والمنكر، تقوم على التوجيه الإلهي مع الاسترشاد بالنظر والتجربة.

وقد عصم الله رسوله  من الخطأ فيما أمره بإبلاغه وبيانه، ومن ثم وجبت طاعته وعدم الانحراف عما يأمر به، سواء أكان إبلاغه بالقول أو بالفعل أو بالإقرار، فكان بيانه ملزماً في دائرة التشريع التي أقامه الله فيها معلماً ومبلغاً بشيراً ونذيراً.

كما أن الرسول  جمع بين عدة صفات، أو كان يقوم بعدد من المقامات والمراكز.

فقد كان  بشراً، إنما يمتاز عن سائر البشر باسطفائه والإيحاء إليه. ثم كان إلى ذلك رسولاً إلى الناس مبلغاً دينهم، وداعياً إلى الله سبحانه وتعالي، وكان في الوقت نفسه زعيماً ورئيساً ووالياً بحكم زعامته الدينية وولايته العامة، وكان لذلك قاضياً يفصل فيما يرفع إليه من الخصومات، وكان قائداً له قيادة الجيوش وبعثها وتدبير أمورها. وكان له في كل هذه المراكز أقوال وأفعال وتدبيرات وسياسات صدرت منه بحكم مركزه ومقامه الذي كان يقومه.

فما الذي يجب اتباعه ويعد شريعة باقية إلى يوم القيامة، وما الذي يعد على خلاف ذلك، ويتغير بتغير الزمن ومصلحة كل عصر؟

تلك هي مشكلة البحث التي تظهر أن الموضوع خطير، وأمر جليل جدير بالتأني والتريث والعمق في النظر.

لذا أراد الباحث أن يقف أمام هذا الموضوع لعله يستطيع أن يضع بعض النقاط على حروفها في موضوع السنة التشريعية.



أسباب اختيار الموضوع:

أولاً: عدم التفرقة بين السنة التشريعية، والسنة غير التشريعية عند بعض الباحثين.

ثانياً: توقف بعض الباحثين على الالتزام بالسنة النبوية جميعها ووجوبها دون تفرقة بين مقامات ومراكز النبي  المختلفة. وفريق آخر يقف على الطريق المعاكس حيث يرى أن الشريعة جاءت بأحكام معينة، وترك ما سوى ذلك، ويتمثل ذلك في كثير من المعاملات.

ثالثاً: أحوال رسول  التي صدر عنها قول منه أو فعل، وأن هذه الأحوال يختلف فيها حكم حال عن حال، ولا يمكن التعامل مع كل هذه الأحوال بمقياس واحد( ).

رابعاً: كيفية معرفة سبب فعل الرسول  من أجل استنباط الحكم منه.

خامساً: هل يتوقف الاقتداء بالأفعال النبوية على معرفة أسبابها؟

منهج البحث:

يستخدم الباحث المنهج التحليلي من أجل تحليل ما استقرأه من النصوص والأفكار، مع الاهتمام بالمنهج الاستدلالي للتدليل على كل ما يطرحه الباحث من أفكار.

خطة البحث:

أما الخطة التي سيسير عليها الباحث- إن شاء الله- فهي تشمل النقاط التالية:



1- المقدمة.

2- أنواع السنة من حيث أثرها التشريعي.

3- اختلاف الفقهاء في نسبة بعض تصرفات الرسول  إلى أقسام السنة المتقدمة.

4- حكم ما يصدر عن النبي .

5- الموسعون لدائرة العفو.

6- حكم ما كُلّف به الرسول  .

7- طرق معرفة سبب الفعل.

8- هل يتوقف الاقتداء بالأفعال النبوية على معرفة أسبابها؟

9- نتائج البحث.



وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى أهله وصحبه وسلم،،





2- أنواع السنة من حيث أثرها التشريعي

إذا كانت السنة النبوية هي ما أثر عن رسول الله  من قول أو فعل أو تقرير، فإن سنته  على أنواع من حيث أثرها التشريعي، أومن حيث اعتبارها مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي.

وقد شغلت هذه التقسيمات للسنة النبوية الشريفة العلماء منذ بداية عصر تدوين العلوم.

فالإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276هـ) يقول: "والسنن عنده ثلاث: سنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن الله تعالي كقوله- أي رسول الله- " لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها "( ).، و " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "( ). ، و " لا تحّرم المصة ولا المصتان "( ). ، و " الدية على العاقلة "( ). ، وأشباه هذه الأصول.

وسنة أباح الله فيها لنبيه أن يسنها، وأمره باستعمال رأيه فيها: فله أن يرخص فيها لمن شاء على حسب العلة والعذر، ومن ذلك إذنه في لبس الحرير لعبد الرحمن بن عوف لعلّة كانت به، واستثناؤه الإذخر من شجر مكة حين نهي عن تعضيد شجرها وأمثال هذه الأمور.

والسنة الثالثة: ما سنه رسول الله تأديباً لنا، فإذا نحن فعلناه، كانت الفضيلة في ذلك، وإن نحن تركناه، فلا جناح علينا إن شاء الله( ).

أما الإمام القرافي المالكي، فيقسم تصرفات الرسول إلى أربعة أنواع: تصرفات بالرسالة، وأخرى بالفُتيا، وثالثة بالحكم (يعني القضاء)، ورابعة بالإمامة( ).

• فتصرف الرسول بالرسالة والفتيا: هو تبليغ عن الله عز وجل، وهو في التبليغ بالرسالة: ناقل عن الحق للخلق. وفي تصرفه تبليغاً بالفتيا: مخبر عن الله تعالي بما يجد في الأدلة أنه حكم الله عز وجل. وكلا تصرفيه بالرسالة والفُتيا شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، إذ ليس لرسول الله في هذا الشأن إلا التبليغ عن ربه الذي هو أصل وظيفته كرسول، فلم ينشئ هنا حكماً برأيه مرتباً على مصلحة معينة، وإنما بلّغ ما أوحي إليه أو ما تبين بيقين أنه حكم الله تعالي في أمر ما.

ومن أمثلة ذلك: الصلاة والزكاة وأنواع العبادات، وكون الملك يترتب على العقود من بيع وهبة وأمثالها.

• أما تصرفه بالحكم أو القضاء- فهو مغاير لهذين التصرفين الرسالة والفتيا السابقتين- التي نص  على أنه يقضي بها في الحديث( )، وهو صريح أن القضاء يتبع البينات، ورسول الله في هذا المقام ينشئ الحكم على المتخاصمين وإن كان متبعاً لأمر الله في إنشاء الأحكام وترتيبها بناء على ما ظهر له من الحجج والأسباب.

• أما تصرفه بالإمامة: فهو تصرفه في شئون السياسة العامة للدولة بما تقتضيه المصلحة، بعد أن فوضت إليه. ومن هذا النوع: قسمة الغنائم وتجهيز الجيش، وتوزيع الإقطاعات من الأراضي، وعقد المعاهدات، وتعيين الولاة في الأمصار والبلدان، وما إلى ذلك من الأمور.

وهذان النوعان من تصرفاته أو من سنته لا يجوز لأحد أن ينشئ الأحكام بناء عليها إلا أن يكون قاضياً في مثل المقام الذي قضي فيه رسول الله، أو حاكماً على رأس دولته أو جماعته فُوّضت إليه مصالحها وشئونها. وليس ما فعله رسول الله  في هذين القسمين ملزماً لكل قاض أو حاكم، وإنما كل قاض أو حاكم يتبعه ويقتدي به في المبدأ الأصلي وهو بناء الأحكام في القضاء على البينات والأسباب، وبناء التصرفات السياسية على ما يحقق مصالح الأمة ومنافعها،وذلك معني قوله تعالي  • •   ( ).

يقول الإمام القرافي- رحمة الله- (… ثم تصرفاته  بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة، فكل ما قاله  أو فعله على سبيل التبليغ، كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة، وإن كان منهياً عنه اجتنبه كل أحد بنفسه. وكل ما تصرف فيه  بوصف الإمامة، لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام، اقتداء به ، ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك، وما تصرف فيه  بوصف القضاء، لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم يقتضي ذلك"( ).

وقد أورد القرافي السؤال الخامس والعشرين وهو: " ما الفرق بين تصرفات رسول الله  بالفتيا والتبليغ، وبين تصرفه بالقضاء، وبين تصرفه بالإمامة؟ وهل آثار هذه التصرفات مختلفة في الشريعة والأحكام أو الجميع سواء في ذلك؟ وهل بين الرسالة وهذه الأمور الثلاثة فرق؟ أو الرسالة عين الفتيا؟ …."( ).

ثم أورد الجواب على هذا السؤال فقال: " إن تصرف رسول الله بالفتيا، هو إخباره عن الله تعالي بما يجده في الأدلة من حكم الله تبارك وتعالي، وتصرفه  بالتبليغ هو مقتضى الرسالة. والرسالة هي أمر الله تعالي له بذلك التبليغ، فهو  ينقل عن الحق الخالق في مقام الرسالة، ما وصل إليه عن الله تعالي، فهو في هذا المقام مبلغ وناقل عن الله تعالي، وورث عنه  هذا المقام المحدثون رواة الأحاديث النبوية وحملة الكتاب العزيز لتعليمه للناس، كما ورث المفتي عنه  الفتيا.

وكما ظهر الفرق لنا بين المفتي والراوي، فكذلك يكون الفرق بين تبلغيهعن ربه وبين فتياه في الدين، والفرق هو الفرق بعنيه، فلا يلزم من الفتيا الراوية، ولا من الراوية الفتيا، من حيث هما رواية وفتيا.

وأما تصرفه  بالحكم (القضاء)، فهو مغاير للرسالة والفتيا، لأن الفتيا والرسالة تبليغ محض واتباع صرف، والحكم إنشاء وإلزام من قبله  بحسب ما يسنح من الأسباب والحجاج، ولذلك قال  فيما حدثت به أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بينة إلا دعواهما في أرض قد تقادم شأنها، وهلك من يعرف أمرها، فقال لهما رسول الله : " إنكم تختصمون إلىّ، وإنما أنا بشر، ولم ينزل علىّ فيه شيء، وإني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علىّ فيه، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له، فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يطوق بها من سبع أرضين، يأتي بها سطاماً( ). في عنقه يوم القيامة، فليأخذها أو ليدعها "( ).

دل ذلك على أن القضاء يتبع الحجاج وقوة اللحن بها.فهو  في هذا المقام منشئ، وفي الفتيا والرسالة مُتّبع مُبلّغ، وهو في الحكم أيضاً متبع لأمر الله تعالي له بأن ينشئ الأحكام على وفق الحجاج والأسباب، لا أنه مُتّبع في نقل ذلك الحكم عن الله تعالي، لأن ما فُوض إليه من الله تعالي لا يكون منقولاً عن الله تعالي.

وأما تصرفه  بالإمامة، فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء، لأن الإمام هو الذي فُوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس.

وهذا ليس داخلاً في مفهوم الفتيا، ولا الحكم، ولا الرسالة، ولا النبوة، لتحقق الفتيا بمجرد الإخبار عن حكم الله تعالي بمقتضى الأدلة، وتحقق الحكم بالتصدي لفصل الخصومات دون السياسة العامة، فصارت السلطة العامة- التي هي حقيقة الإمامة- مباينة للحكم من حيث الحكم.

وأما الرسالة فليس يدخل فيها إلا مجرد التبليغ عن الله تعالي، وهذا المعني لا يستلزم أنه فوُض إليه السياسة العامة، فكم من رسل الله تعالي على وجه الدهر قد بعثوا بالرسائل الربانية، ولم يطلب منهم غير التبليغ لإقامة الحجة على الخلق من غير أن يؤمروا بالنظر في المصالح العامة….. وأما آثار هذه الحقائق في الشريعة فمختلفة:

فما فعله-  - بطريق الإمامة، كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الإقطاعات في القرى والمعادن، ونحو ذلك، فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر، لأنه  إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقرراً لقوله تعالي  •   ( ).

وما فعله عليه الصلاة والسلام بطريق الحكم، كالتمليك بالشفعة، وفسوخ الأنكحة والعقود، والتطليق بالإعسار عند تعذر الإنفاق، والإيلاء والفيئة، ونحو ذلك، فلا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم الحاكم( ). في الوقت الحاضر، اقتداء به  لأنه لم يقرر تلك الأمور إلا بالحكم، فتكون أمته بعده  كذلك.

وأما تصرفه- عليه الصلاة والسلام- بالفتيا والرسالة والتبليغ فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يلزمنا أن نتبع كل حكم مما بلّغه إلينا بسببه، من غير اعتبار حكم حاكم، ولا إذن إمام، لأنه  مُبلّغ لنا ارتباط ذلك الحكم بذلك السبب، وخلّى بين الخلائق وبين ربهم، ولم يكن منشئاً لحكم من قِبَله ولا مُرتباً له برأيه على حسب ما اقتضته المصلحة، بل لم يفعل إلا مجرد التبليغ عن ربه، كالصلوات والزكوات وأنواع العبادات، ثم تحصيل الأملاك بالعقود من البياعات والهبات وغير ذلك من أنواع التصرفات، لكل أحد أن يباشره ويحصل سببه، ويترتب له حكمه من غير احتياج إلى حاكم ينشئ حكماً، أو إمام يجدد إذناً"( ).

هكذا عرض القرافي( ). قضية تقسيم السنة النبوية إلى تشريعيه: وهو ما تعلق من السنة بالرسالة والتبليغ وبالفتيا في موضوعات الرسالة.

وإلى سنة غير تشريعية: وهي التي تمثل إنشاء الرسول  باجتهاده في فروع المتغيرات الدنيوية، التي لم يرد فيها وحي ولا شرع إلهي، بميادين ممارساته لشئون الإمامة- الدولة- والحكم والقضاء.

وكيف أن أحكام السنة التشريعية ماضية، دون أن يتوقف إمضاؤها على حكم حاكم- أي قضاء قاض- جديد، ولا إذن إمام جديد، بينما أحكام السنة غير التشريعية لابد وأن يستأنف فيها الاجتهاد الجديد بواسطة القضاء المعاصر وإمام الوقف الحاضر، لتبين مدى توافر شروط إعمال أحكامها، فإذا توافرت أمضيت هذه الأحكام، وإلا أثمر الاجتهاد الجديد حكماً جديداً يتغيا تحقيق المصالح والمقاصد الإسلامية، التي هي الحكمة والعلة الغائية من وراء هذه الأحكام.

هذا، وينبغي أن لا توسع دائرة ما صدر عنه  من التصرفات بوصفها جبليٍةَ، لأن الصفة الغالبة على أحواله هي الصفة التشريعية، ولا يُعدل عن هذا الأصل إلى خلافه إلا بدليل.

ونجد أيضاً تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية عند المحدث والفقيه الأصولي ولي الله الدهلوي( )، حيث يسميها (علوم النبي )، ويقسمها إلى قسمين:

أ‌) ما سبيله تبليغ الرسالة: ويشمل علوم الآخرة وعجائب الملكوت، وشرائع وضبط العبادات، وبعضها وحي، وبعضها اجتهاد مبني على ما علّمه الله من مقاصد الشرع، فهو بمنزلة الوحي، والموقف من هذا القسم هو: التزام ما فيه من أحكام.

ب‌) وما ليس من باب تبليغ الرسالة، أو الاجتهاد المؤسسي على الوحي، ويشمل علوم الدنيا، وسياسة المجتمع والدولة وأحكام القضاء، وهذا القسم من السنة النبوية هو اجتهاد نبوي، يستأنف فيه ومعه الاجتهاد الجديد، الذي قد يفضي إلى أحكام جديدة تقتضيها الحِكَم والعلل الغائبة والمصالح الجديدة على النحو الذي ضربنا له وعليه الأمثال.

يقول الدهلوي تحت باب بيان أقسام علوم النبي : " اعلم أن ما روى عن النبي  ودُوّن في كتب الحديث على قسمين: أحدهما: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالي:          ( ). ومنه: علوم المعاد وعجائب الملكوت، وهذا كله مستند إلى الوحي( ). ومنه: شرائع وضبط للعبادات والارتفاقات( ) بوجوه الضبط المذكورة فيما سبق، وهذه بعضها مستند إلى الوحي، وبعضها مستند إلى الاجتهاد. واجتهاده  بمنزلة الوحي، لأن الله تعالي عصمه من أن يتقرر رأيه على الخطأ، وليس يجب أن يكون اجتهاده استنباطاً من المنصوص كما يظن، بل أكثره أن يكون علمه الله تعالي مقاصد الشرع وقانون التشريع والتيسير والأحكام، فبيّن المقاصد المتلقاة بالوحي، بذلك القانون، ومنه: حكم مرسلة ومصالح مطلقة لم يوقتها، ولم يبين حدودها، كبيان الأخلاق الصالحة وأضدادها، ومستندها غالباً الاجتهاد، بمعني أن الله تعالي علمه قوانين الارتفاقات، فاستنبط منها حكمة، وجعل فيها كلية، ومنه: فضائل الأعمال ومناقب العمال، وأري أن بعضها مستند إلى الوحي، وبعضها مستند إلى الاجتهاد، وقد سبق بيان تلك القوانين، وهذا القسم هو الذي نقصد شرحه وبيان معانيه.

وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله  " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"( ). وقوله  في قصة تأبير النخل: " فإني إنما ظنت ظناً، ولا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لم أكذب على الله "( ). ومنه الطب، ومنه باب قوله : " عليكم بالأدهم الأقرح "( ).، ومستنده التجربة، ومنه: ما فعله النبي  على سبيل العادة دون العبادة، وبحسب الاتفاق دون القصد، ومنه: ما ذكره كما كان يذكره قومه، كحديث أم زرع( )، وحديث خرافة، وهو قول زيد بن ثابت حيث دخل عليه نفر، فقالوا له: حدّثنا أحاديث رسول الله ، قال: " كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي، بعث إلىّ، فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله  "( ). ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش وتعيين الشعار( )، وهو قول عمر رضي الله عنه: ما لنا وللرّمل منا نتراءى( )به قوماً قد أهلكهم الله، ثم خشي أن يكون له سبب آخر، وقد حمل كثير من الأحكام عليه كقوله : " من قتل قتيلاً فله سلبه "( ). ومنه حكم وقضاء خاص، وإنما كان يتبع فيه البينات والأيمان، وهو قوله  لعلى رضي الله عنه: " الشاهد يرى ما لا يراه الغائب " ( )( ).

هكذا عرض الدهلوي قضية السنة وأنواعها حيث قسمها إلى سنة تشريعية وتشمل تصرفه  بالرسالة، واجتهاده المبني على ما علّمه الله من مقاصد الشرع. وحكمه: التزام ما فيه من أحكام.

وسنة غير تشريعية وتشكل تصرفه بالإمامة وتصرفه بالقضاء، وحكمه: ليس ملزماً، وإنما يتم التصرف بناء على ما يحقق مصالح الأمة ومنافعها.

يتضح لنا مما سبق أن النبي  قام في حياته بأدوار مختلفة في البيئة الاجتماعية التي كان واحداً من أفرادها، وكان في كل دور من تلك الأدوار قدوة لمن يأتي بعده  ممن يمثل ذلك الدور وكان كثير من هذه الأدوار ممتزجاً بعضه ببعض في شخصه  والتصرف الذي كان يتصرفه كان ينتمي إلى واحد أو أكثر من هذه الجهات من شخصه الشريف  .

والاقتداء به  في فعل من أفعاله يكون صحيحاً إذا كان المقتدى به مساوياً في الجهة التي صدر عنها ذلك الفعل.

فالتصرفات الصادرة عنه بوصفه رئيس الدولة، يقتدي به فيها من كان بعده رئيس دولة، وما فعله بوصفه مُفتياً، يقتدي به فيه المفتي، وما فعله بوصفه قاضياً، يقتدي به فيه القاضي، وما فعله إماماً في الصلاة، يقتدي به فيه الأئمة بعده.

والحكمة من جمعه  لهذه المناصب وفائدتها من جهة التبليغ: أن وظيفة النبي ومهمته التي حددت في القرآن ليست مقصورة على التبليغ، بل منها التعليم والتزكية أيضاً، وذلك يتم بأن ما بلغه  بالقول، مطّبقاً تطبيقاً حيّاً مشاهداً، ليحصل تمام الإدراك والتعقل لما يبلغه بالقول.

" فحصل بجمعه  منصب القضاء إلى منصب الرسالة، البيان الفعلي لما يراعي في القضاء من الأحكام الشرعية. وبجمعه منصب الإفتاء إلى منصب الرسالة، البيان الفعلي لما يراعيه المفتي عند إصداره الفتيا. وبجمعه إمامة الصلاة البيان الفعلي كذلك. وكذلك يقال في الإمامة العامة والإدارة، وما سواها من المناصب "( ).

وكان هذا أظهر في الحكمة من أن يكون متوليّاً منصب الرسالة وحده، إذ لا تبين حينئٍذ الأحكام الشرعية المتعلقة بسائر المناصب إلا قولاً فقط.



مواقف للصحابة تدل على صحة التقسيم السابق للسنة:

ومما يؤيد ما ذكرناه ويعضده أن أصحاب رسول الله  وهم حملة الشريعة والقائمون عليها من بعده، غيروا بعض السنن المروية عن الرسول لما تغيرت الظروف، لعلمهم أنها صدرت عنه  ملاحظاً فيها حال الأمة ومقتضيات البيئة زمن التشريع، دون أن تكون شرعاً لازماً عاماً في كل حال، ولولا ذلك ما غيروا، ونحن نعيذهم جميعاً من أن يخالفوا حديث رسول الله وهم يعلمون أنه دين عام وتشريع لازم لكل الناس في جميع الحالات، وكيف يتصور أن يقع ذلك منهم وهم أحرص الناس على اتباع هدى الرسول  ، وترسم خطاه( ).

فمن هذه الأمثلة: ما جاء في شأن الدية في القتل، حيث نص القرآن الكريم عليها     ( ). ولم يحدد مقدارها، فعرضت السنة لهذا المقدار بالبيان حين حدده رسول الله  بمائه من الإبل، كما جاء في كتابه إلى أهل اليمن: " …. وأن في النفس الدية مائة من الإبل ….. "( ). وجعلها رسول الله  على عاقلة الجاني، أي عشيرته التي ينتمي إليها من قبيلته. فكان الأصل في الدية مائة من الإبل، ولكنها قدرت في بعض الأحيان بسنة رسول الله أيضاً، لتغير أهل الإبل، فقدرها ثمانمائة دينار لمن يتعاملون بالذهب أو عدلها من الورق (الفضة) ثمانية آلاف درهم.

فلما فتحت الفتوح ودخل في الإسلام من البلدان ما لا يتعامل أهلها بالإبل أو الذهب والورق، كان ما رواه محمد بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن عمر لما استخلف خطب الناس فقال: إن الإبل قد غلت، وجعل الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الغنم ألف شاة، وعلى أهل الحلل مائة حلة "( ). ثم إن عمر رضي الله عنه لما دون الدواوين رأي أن التناصر بين الناس أصبح بالديوان، بعد أن كان بالقرابة والقبيلة، فنقل الدية إلى أهل الديوان يحملونها عمن تجب عليه ممن هو معهم فيه.

ولعل هذا هو سّر ما قرره فقهاء الأحناف من أنه لو أصبح التناصر بشيء آخر كالحرفة مثلاً، وجب نقل الدية إليه، إذ العلة فيها التناصر، فأي رابطة كان بها التناصر انتقلت الدية إلى أصحابها( ).

ومن هذا الباب: تحديد رسول الله  زكاة الفطر بصاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من زبيب، بناء على ما كان من أطعمتهم يومئذ، إذ المقصود من زكاة الفطر هو إغناء الفقير يوم العيد عن السؤال، وكانت قيمة الصاع من كل هذه الأشياء قريباً بعضها من بعض.

ولما رأي معاوية- حين ولي الشام- جودة قمحها، وأنه يزيد في قيمته عن الزبيب والشعير والتمر، قال في خطبة له: " أري مُدّين من سمراء الشام (يعني قمحها) تعدل صاعاً من تمر "( ).

فأخذ الناس بهذا، وساروا على أن الواجب صاع من تمر أو من زبيب أو شعير، أو نصف صاع من قمح أو دقيقه( ).

ومن ذلك أيضاً: ما رواه أبو داود بسنده أن رسول الله  قال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن لا يخرجن تفلات "( ). أي مُتطيبات. واستمر العمل بالإذن النبوي في الخروج للمساجد حتى تغّير حال الناس، ففكر بعض الفقهاء- من الصحابة- في منعهم، ودارت مناقشة بين الراغبين في المنع وبين المصرين على الإذن، فيقول عبد الله بن عمر- وكان على رأس المصرين على الإذن- ائذنوا للنساء بالخروج فقد أذن لهن رسول الله ، فيرد عليه ابنه واقد قائلاً: " والله لا نأذن لهم فيتخذنه دغلاً "، وتؤيد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وجهة نظر المانعين فتقول: " لو أدرك رسول الله  ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل "( ).

وعبارة ابن عمر " ائذنوا لهن " تفيد أن المنع كان قد وقع بالفعل، وتأييد عائشة رضي الله عنها له يدل بصراحة على أنها فهمت إذن رسول الله  مقُيداً بعدم ترتب مفسدة عليه، فلما حدثت المفسدة- أو خشي وقوعها- ما تحرجت وهي من هي تمسكاً بسنة رسول الله  من أن تقول ما قالت معللة رأيها بدفع المفسرة التي ترتبت على ما أحدثته النساء بعد الرسول .

ولو كان هذا شرعاً دائماً لما ساغ للسيدة عائشة رضي الله عنها مخالفته، وإنما كان الشرع الدائم هو تحقيق مصلحة الأمة التي ما بعث الله الرسل- في أي أمة كانوا- إلا لتحقيقها، فأينما تبين وجهها فثم شرع الله ودينه.

ولعل من أوضح الأمثلة أيضاً: ما فعله عمر رضي الله عنه في أرض العراق حين فتحها الله على المسلمين، وقد طال النزاع بين الفقهاء والمفسرين في تأويل فعله وتصحيحه( ).

لكن المقصود هنا هو بيان أن عمر فعل شيئاً لم يفعله رسول الله  لما خشي أن يرتب فعله مثل فعل رسول الله مفسدة أو إضراراً بالمسلمين، وذلك أن رسول الله  لما فتح الله عليه خيبر عنوة قسمها بين المسلمين قسمة الغنائم.

فلما فتحت العراق، شاور عمر الصحابة من المهاجرين الأولين فاختلفوا عليه، فمن قائل تقسّم كما قسّم رسول الله  خيبر، ومن قائل ترى فيها رأيك، وقد كان رأيه أن تصبح من أملاك المسلمين العامة، يجبي خراجها فتسد منه حاجتها، ويفيض ما يعين على قضاء وظيفة بيت المال العام. فاستشار بعدهم عشرة من كبار الأنصار فوافقوه على رأيه، فترك عمر الناس يتشاورون يومين أو ثلاثة حتى كان آخر أمرهم أن وافقوه على رأيه.

وقد روى أبو يوسف في كتابه " الخراج "( ). قصة أرض العراق هذه بعبارات تفيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنها أرض مفتوحة فهي غنيمة للمسلمين، فحكمها حكم المغنم وهو التقسيم أخماساً. ولكنه رأى أن ذلك يضر بمن يأتي بعد جيله من أبناء المسلمين، فقد كان يقول لمن يحاجونه " فكيف بمن يأتي بعدكم " يريد أن مصلحة الأمة الدائمة في الأخذ برأيه .. وقد صرح بذلك فيما يروى البخاري عنه قوله " والله لولا أن يُترك آخر الناس بياناً ليس لهم شيء ما فتح الله عز وجل على المسلمين قرية إلا قسمتها سهاماً كما قسمت خيبر، ولكن أتركها خزانة لهم يقتسمونها "( ).

ولا يشمل فهم الصحابة رضي الله تعالي عنهم لهذه الأنواع من سنته الشريفة إلا ما كان مُتعلقاً منها بالتشريع غير الملزم الذي ينبني على مصالح الأمة ومنافعها، أما ما كان من سنة النبي  متعلقاً بالعبادات والأخلاق والآداب والغيب، فذلك كله من باب الموحي الذي لا يقال بالرأي، إنما هو تشريع ملزم.

ومن ثم فالواجب فيه مادلّ عليه نص الحديث من إيجاب الفعل، أو الندب إليه، أو تحريمه، أو كراهته، أو التصديق بالخبر الوارد عن رسول الله  في الأمور الكونية والغيبية وأمثالها.

3- اختلاف الفقهاء في نسبة بعض تصرفات الرسول 

إلى أقسام السنة المتقدمة.

وبناء على هذا التقسيم السابق واختلاف حقائق تلك الأقسام وتنوع آثارها التشريعية، وعدم وجود تحديد قاطع لكل نوع، اختلف الفقهاء في بعض تصرفات الرسول  ، هل يُعد من قسم الفُتيا والرسالة أم من قسم الإمامة والحكم؟ واتفقوا في ما وراء ذلك على بعض ما هو من كل قسم.

وقد ضرب القرافي ثلاثة أمثلة لاختلاف الأئمة في تحديد نوع بعض تصرفاته  نتيجة لاختلافهم في الفهم( )..

المثال الأول: قوله  " من أحيا أرضاً ميتة فهي له "( ). اختلف العلماء في هذا القول، هل تصرف بالفتوى فيجوز لكل أحدٍ أن يحيى دون إذن الإمام في ذلك الإحياء أم لا؟ وهو مذهب مالك الشافعي رضي الله عنهما. أو هو تصرف منه  بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يحيى إلا بإذن الإمام، وهو مذهب أبي حنيفة رحمة الله "( ).

ومذهب مالك والشافعي في الإحياء أرجح، لأن الغالب في تصرفه  الفتيا والتبليغ، والقاعدة أن الدائر بين الغالب والنادر، إضافته إلى الغالب أولى.

المثال الثاني: قوله  لهند بنت عتبة، امرأة أبي سفيان لما قالت له : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني، فقال لها : "خذي لكِ ولولدكِ ما يكفيك بالمعروف "( ).

اختلف العلماء في هذه المسألة وهذا التصرف منه  هل هو بطريق الفتوى، فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به. ومشهور مذهب مالك خلافه، بل هو مذهب الشافعي. أو هو تصرف بالقضاء، فلا يجوز لأحد أن يأخذ جنس حقه، أو حقه إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاضٍ؟ حكي الخطابيُّ القولين عن العلماء في هذا الحديث.

حجة من قال: إنه بالقضاء، أنها دعوى في مال معين، فلا يدخله إلا القضاء، لأن الفتاوى شأنها العموم.

وحجة القول بأنها فتوى، ما روى أن أبا سفيان كان بالمدينة، والقضاء على الحاضر من غير إعلام ولا سماع حجة لا تجوز، فيتعين أنه فتوى. وهذا ظاهر الحديث.

المثال الثالث: قوله  : " من قتل قتيلاً فله سلبه "( ). اختلف العلماء في هذا الحديث، هل تصرف فيه  بالإمامة، فلا يستحق أحدُ سلب المقتول إلا أن يقول الإمام ذلك، وهو مذهب مالك رحمه الله، فخالف أصله فيما قاله في الإحياء، وهو غالب تصرفه  بالفتوى، فينبغي أن يحمل على الفتيا عملاً بالغالب.

وسبب مخالفته لأصله أمور منها: أن الغنيمة أصلها أن تكون للغانمين، لقوله تعالي"       •   ( ). وإخراج السلب من ذلك خلاف هذا الظاهر( ).

ومنها أن ذلك ربما أفسد الإخلاص عند المجاهدين، فيقاتلون لهذا السبب دون نصر كلمة الإسلام، ومن ذلك أنه يؤدى إلى أن يقبل على قتل من له سلب دون غيره فيقع التخاذل في الجيش، وربما كان قليل السلب أشد نكاية على المسلمين، فلأجل هذه الأسباب تُرك هذا الأصل.

وعلى هذا القانون، وهذه الفروق يتخّرج ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته ، فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية( ).

فهذه التقسيمات كلها، والخلاف حولها بين الأئمة الفقهاء يدل في وضوح أن ما ورد عن الرسول  ليس كله تشريعاً لازماً للأمة في كل حين، بل منه ما هو كذلك، وهو الأغلب، لأن وظيفته الأولي  هي التبليغ.

ومنه ما هو قضاء وحكم بني علي ما قام عنده من الدلائل والبينات وهي وقائع جزئية يشير إليها الفقهاء كثيراً في مناقشاتهم بقولهم قضية عين لا عموم لها.

4- حكم ما يصدر عن النبي 

ما صدر عن النبي إما أن يكون بناء على التكليف، أو عدم التكليف، لذلك اختلف علماء الأصول في هذه المسألة إلى فريقين:

الفريق الأول:

رأى الشريعة حاكمة على جميع أفعال العباد، فلا يخلو فعل منها عن حكم شرعي، " فما من عمل يُفرض، ولا حركة، ولا سكون يدَّعي، إلا والشريعة حاكمة عليه إفراداً وتركيباً "( ). وقد أحاطت الشريعة بالأفعال إحاطة تامة، فلم يشذ منها شيء.

وممن قال بهذا الإمام الشافعي، وابن السمعاني. قال ابن السمعاني:

لابد أن يكون لله تعالي في كل حادثة حكم، إما بتحليل أو بتحريم "( ). وقال: "إنا نعلم قطعاً أنه لا يجوز أن تخلو حادثة عن حكم لله تعالي منسوب إلى شريعة نبينا محمد "( ).

الفريق الثاني:

يرى أن الشريعة جاءت بأحكام معينة في أفعال معينة، أراد الله عز وجل أن تكون تلك الأحكام هي الدين، وترك ما سوى تلك الأفعال المعينة، فلم يتعّرض له، لا بأمر ولا نهي، ولا بتحليل ولا بتحريم، بل أبقاه على ما كان عليه قبل ورود الشريعة.

وأفعال العباد على هذا قسمان: قسم فيه حكم شرعي، وقسم آخر خارج عن نطاق الشريعة وهو ما يسمي بالعفو.

وقد توقف الشاطبي في إثبات مرتبة العفو ولم يرجح أحداً من المذهبين( ).

أدلة الفريق الأول: يحتج للمذهب الأول بأدلة:

1) لو لم تكن أفعال المكلفين بجملتها داخله تحت خطاب التكليف، لكان بعض المكلفين خارجاً عن حكم التكليف، ولو في وقت أو حالة ما، لكن ذلك باطل، لأنا فرضناه مكلفاً فلا يصح خروجه( ).

2) قوله تعالي:  •      ( ).، وقوله      (4).

ووجه الاستدلال بالآية الأولي: أن الكتاب تبيان لكل شيء، وتدخل أفعال العباد دخولاً أوليّاً، إذ إن ضبطها حسب أوامر الله، هو المقصود الأول من نزول القرآن، فينبغي أن يكون في الكتاب بيان أحكامها جميعاً(5).

أدلة الفريق الثاني:

1) ورد في حديث سلمان الفارسي عن النبي  أنه سئل عن الجبن والسمن والفراء، فقال: " الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه "(6).

2) وقال ابن عباس: " كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تقُذّراً، فبعث الله نبيه  وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه. فما أحلّ فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو( )، وتلا ا         •    ….( ). إلى آخر الآية

3) وعن أبي ثعلبة أن النبي  قال: " إن الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء من غير نسيان من ربكم، ولكن رحمه منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها "( ).

4) قول النبي : " إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته "( ).

ولهذا الحديث شاهد، ما ذكره الله في قصة بقرة بني إسرائيل حين أكثروا من السؤال، فشدّد الله عليهم، فقد كان اللون خارجاً عن المحكوم فيه أصلاً، وإلا لم يؤاخذهم بالسؤال عنه.

5) نهي النبي عن كثرة السؤال، ولومه من فعل ذلك ولو كان لكل شيء حكم شرعي لما كان السائل عنه ملوماً.

ومما ورد من ذلك للنهي " ذرونى ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم "( ).

والذي يميل إليه الباحث، رأى الفريق الثاني؛ لأن أدلته أقوى، حيث نصت الأحاديث على مرتبة العفو في المسكوت عنه، في حين أن الفريق الأول استدل بآيتين عامتين.

كما أن أحكام الشريعة طائفة محدودة من الأحكام، سواء أكانت مستفادة بالنص أو الاجتهاد، وما لم يدل عليه دليل صحيح، يكون خارجاً عن جملة الأحكام أصلاً، والله أعلم وأحكم.

1- الموسعون لدائرة العفو

ذهب فريق( ). من العلماء المعاصرين إلى أن السنة غير التشريعية تشمل كثيراً من المعاملات، وهذا القول في حاجة إلى تحقيق.

فمثلاً الأكل والشرب كلام عام يشمل المأكول والمشروب، والأواني والهيئة أو الكيفية، فأخذ الكلام على عمومه يحتاج إلى تفصيل.

هل بيان المأكول والمشروب المحرم والمكروه والمباح من السنة غير التشريعية؟ هل حديث " أحل لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والدم والطحال"( ). سنة غير تشريعية؟ إن رسول الله  أحل لنا الطيبات، وحرّم علينا الخبائث. فالمأكول والمشروب سنة تشريعية من حيث الحل والحرمة، أما أنه  أكل نوعاً من الحلال، وترك غيره يأكل نوعاً آخر، فالتشريع فيها الإباحة، إباحة ما أُكل وما لم يأكل مما لم ينه عنه.

وأما الأواني فقد نهي  عن الأكل والشرب في صحاف الذهب والفضة، وهذا تشريع. أما أنه  أكل في قصعة من الفخار، ونحن نأكل في الأواني الفاخرة غير الذهبية والفضية، فهذا من المباحات والإباحة تشريع.

وأما الهيئة، فهناك هيئات مأمور بها، وهيئات منهي عنها، وهيئات أخرى كثيرة مباحة، والكل تشريع. قول الرسول: " يا غلام: سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك "( ). هيئة أكل مشروعة. " ونهي الرسول  عن اختناث الأسقية"( ). أي الشرب من أفواها ممنوعة شرعاً.

أما أنه  أكل بأصابعه ويده، ونحن نأكل بالملاعق والشوك والسكاكين، فهو من المباحث المشروعة( ).

ومثل ذلك يُقال في النوم واللبس، وكل ما هو خاص بالحاجة والطبيعة البشرية، حتى قضاء الشهوة مع الزوجة له قواعده وأصوله وحدوده الشرعية( ).

فكل من هذه الأمور منها الواجب شرعاً، ومنها المحرم والمكروه والمندوب والمباح.

وعمده أدلة هذه الفريق حديث تأبير النخل الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه. عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله  بقوم على رؤوس النخل، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح( ). فقال رسول الله : ما أظن يغني ذلك شيئاً، قال: فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله  بذلك، فقال إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخدوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لم أكذب على الله عز وجل "( ).

وعن رافح بن خديج قال: " قَدِم نبي الله  المدينة وهم يؤبرون النخل، قال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً، فتركوه، فنفضت. قال: فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر "( ).

وعن أنس: أن النبي  مر بقوم يلقحون، فقال: لو لم تفعلوا لصلح. قال فخرج شيصاً، فمر بهم، فقال ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال: " أنتم أعلم بأمر دنياكم "( ).

فإذا أريد إدخال المباحات من الأكل والشرب والنوم واللباس والمشي والجلوس في حديث " أنتم أعلم بشئون دنياكم " فلا بأس، حتى في المعاملات، كل إنسان أعلم بشئون دنياه في الأمور المباحة.

لكن إدخال المعاملات الممنوعة شرعاً تحت هذا الحديث، فلا يجوز شرعاً. وحديث تأبير النخل يدخل تحت الأعمال البشرية التي تكتسب عن طريق العلم والتدريب والممارسة، كالزراعة والنجارة والحياكة، ونحو ذلك مما يتخصص فيه ويجيده بعض البشر.

فهذه الأمور ليست من مهمة الرسالة، وليست من مهمة الرسول ، ولا من مؤهلاته أن يكون ماهراً فيها. فإذا ما تكلم  مع الخبراء فيها فكلامه مبني على الظن الذي قد يخطئ كأي إنسان غير مُتخصص، ولهذا جاء في بعض روايات الحديث: " إنما أنا بشر " ، " إنما ظننت ظنا ".

" أنتم أعلم بشئون دنياكم " جملة تقسم إلى ثلاثة مقاطع( ):

" أنتم " والمراد من المخاطبين، و " أعلم " والمراد من المفضل عليه،

و"شئون دنياكم " وتحديد المراد منها.

وبعبارة أخرى: مَنْ ؟ أعلم مِنْ مَنْ ؟ وبأي شيء هم أعلم؟ أما المقطع الأول: فالخطاب الشرعي عند الأصوليين هو أصالة لمن سمعوا الخطاب، وقد يقصر عليهم إذا كان التكليف لهم وحدهم، كقوله تعالي:                     ( ).فالخطاب هنا لجنود طالوت لا يتعداهم إلى غيرهم.

وقد يُراد بالتكليف غيرهم معهم، كقوله تعالي: :    ، فالتكليف قطعاً موجه للسامعين ولغير السامعين من المسلمين المعاصرين وغير المعاصرين إلى يوم القيامة.

لكن غير السامعين، هل هم مكلفون بالخطاب والنص؟ على معني أقيموا الصلاة يا من يتأتى خطابكم بهذا التكليف في أي زمان وفي أي مكان. أو مكلفون بالقياس على السامعين؟ قولان عند الأصوليين.

فالخطاب في الحديث " أنتم " للعشرة أو العشرين الذين كانوا يلقحون النخل بالمدينة أصالة، وحين يراد غيرهم معهم يبحث في المقصود بهذا الغير ليعطي الحكم نفسه.

و " أعلم " أفعل تفضيل، فهل المفضل عليه رسول الله ؟ كأنه قال: "أنتم أعلم مني "، أو هو ومن على شاكلته ممن يجهل هذا الشيء، أو المفضل عليه من عدا المخاطبين أصلاً، أي أنتم أعلم من كل الناس

و " شئون دنياكم " هل المراد بها مصلحة النخل فقط؟ أو مصلحة النخل وما على شاكلتها من المهن والخبرات؟ أو كل شئون الدنيا فتدخل المعاملات.

لنتصور الاحتمالات، ثم نختار منها ما يصلح لأن يكون مراد المشرع الحكيم:

الاحتمال الأول: أنتم أيها الذين تلقحون النخل أعلم بما يصلح النخل مني وممن لا علم له بالزراعة، أي أنتم أعلم بشئون دنياكم هذه التي تباشرونها، والتي لم تنجح فيها مشورتي، أعلم منى ومن مثلي. فالحديث على هذا واقعة عين أو واقعة حال، لا يستدل بها على غيرها أصلاً.

الاحتمال الثاني: أنتم أيها الذين تلقحون النخل ومن على شاكلتكم من أهل الصناعات والمهارات والخبرات أعلم بصنائعكم مني، وممن ليس من أهل الصناعات. والكلام على التوزيع، على معني: أن كل أهل صنعة أعلم بها ممن ليسوا من أهلها، كما يقال: أهل مكة أدرى بشعابها.

الاحتمال الثالث: أنتم أيها الذين تلقحون النخل بالمدينة أعلم بما يصلح النخل مني ومن غيركم من زارعي النخل في البلاد والأزمان المختلفة. وهذا الاحتمال واضح البطلان، ففي بعض البلاد وفي بعض الأزمان من هم أعلم منهم بذلك.

الاحتمال الرابع: أنتم أيها الذين تلقحون النخل بالمدينة أعلم بالخبرات والصناعات المختلفة مني ومن غيري، حتى من أهل الصناعات أنفسهم، على معني أنتم أعلم بالطب مثلاً مني ومن الأطباء. وهذا الاحتمال واضح البطلان.

هذه الاحتمالات الأربعة مبنية على أن المراد من شئون الدنيا الصناعات والمهارات والخبرات. فإذا أردنا من شئون الدنيا مصالح كل فرد أو مصالح كل مجموعة من مباحات الدنيا، كالمقارنة بين شراء بيت أو شراء سيارة، كان الاحتمال الآتي:

الاحتمال الخامس: أنتم الذين تلقحون النخل بالمدينة ومثلكم جميع الناس أعلم بشئون دنياكم وما يصلح لكم من غيركم.

والكلام على قاعدة: مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، تقول: أعطيت الطلاب كتباً على معني أعطيت كل طالب كتاباً، فيصبح المعني: كل واحداً أعلم من غيره بشئون ومصالح نفسه.

وهذا الاحتمال إن صحح في المباحات، لا يصح في الواجبات والمحرمات، فالشرع وحده هو الذي حددها على أنها المصلحة، بناء على ما سبق علم الله الذي خلق. ثم إن هذا الاحتمال لا يتناسب مع قصة الحديث.

ومما هو واضح أن الاحتمال الثاني هو المراد، ثم يليه الأول، وعلى كل حال لا يصح الاستدلال بالحديث على إباحة التغيير في المعاملات، لأن الحديث تطرق إليه أكثر من احتمال، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال، سقط به الاستدلال( ).

كما أن فهم المخاطبين من الحديث أساس في تحديد المراد منه، فماذا فهم الصحابة رضوان الله عليهم من حديث " أنتم أعلم بشئون ديناكم "؟ هل اتبعوا ما يعلمون أو ما يظنون أنه في صالحهم دون الرجوع إلى حكم الرسول  ؟ هل اتبعوا ما يعتقدون أنه صالح في البائع فباعوا المصراة، وتلقوا الركبان قبل وصولهم الأسواق، وقبل معرفتهم الأسعار؟ أو نفذوا حكم النبي  ونهيه عن بيع المصراة وتلقي الركبان؟

الثابت الذي لا شك فيه أنهم كانوا يتبعون أوامره في المعاملات، وينفذونها بدقة، مما يؤكد بداهة أنهم لم يجعلوها داخلة تحت حديث " أنتم أعلم بشئون ديناكم ".

وإذا ثبت ووضح لنا مراد المتكلم ، وأنه لم يدُخلِ المعاملات ضمن هذا الحديث. وإذا ثبت فهم المخاطبين واستجاباتهم، وأنهم لم يخطر ببالهم دخول المعاملات تحت هذا الحديث.

وإذا أجمعت الأمة في عصورها المختلفة على أن المعاملات لا تدخل في هذا الحديث. وإذا كان الفهم الصحيح للحديث يحدد المراد منه ويمنع من دخول المعاملات فيه، فهل يبقي خيط عنكبوت يتعلق به أصحاب هذا الفريق ليدخلوا المعاملات في هذا الحديث؟ اللهم لا.

إن الشريعة الإسلامية رسمت أسلوب تعامل الإنسان على الأرض مع كل ما يحيط ويتصل به.

ومع أن الباحث مال إلى رأي الفريق القائل بمسألة العفو، إلا أن الأمر يظل له ضوابطه، حيث ذلل الله لبني آدم كثيراً من مخلوقاته، وزوده بعقل ليستفيد من هذه النعم، فهو في ميدان استخدام العلم والطبيعة حر، وفي ميدان الاستفادة والترقي لا حجر عليه.

شرط واحد أساسي: ألا يتعلق بمهاراته ونشاطه حقوق للغير، وهذا هو الحد الفاصل بين ما هو من شئون الدنيا المرادة من الحديث، وبين ما هو من اختصاص الشريعة الواردة على لسان نبيه محمد . "فأنتم أعلم بشئون دنياكم" فافعلوا ما تختارون حيث لا يتعلق بهذه الشئون حقوق للآخرين، فإن تعلقت بها حقوق الآخرين، ولو كان طيراً أو حيواناً، فالأعلم بها الله ورسوله، وشرعه في ذلك هو الميزان، ما أمر به هو المصلحة وما نهي عنه هو المفسدة.

6- حكم ما كُلّف به الرسول 

ما يكلف به النبي  إما يكون مطالباً به على وجه الحتم والإلزام، وتلك هي الواجبات، أو ليس على وجه الإلزام، وتلك هي المستحبات، أو يكون مطالباً بأن يترك حتماً أموراً، وتلك هي المحرمات، أو ليس على وجه الحتم، وتلك هي المكروهات، وجعل له الخيار في أمور أخرى أن يفعلها أو لا يفعلها، وهي ما أبيح شرعاً.

فانحصر ما كلف به في أمور خمسة هي: الواجب، والمستحب، والمحرم، والمكروه، والمباح، وهذا ما يسمي عند علماء الأصول أقسام الحكم التكليفي( ).



كما يقسم علماء الأصول أفعال النبي ثلاثة أنواع( ):

أولاً: الأفعال الجبلية التي يقوم بها الرسول ، كالقيام، والقعود، والأكل والشرب، مما لا يترب عليه أمر أو نهي. فهذه لا نزاع في أنها على الإباحة بالنسبة إليه وإلى أمته.

ثانياً: الأفعال التي ثبت كونها من خصائص النبي ، كإباحة الوصال في الصيام، واختصاصه بوجوب التهجد بالليل، وإباحة الزيادة في النكاح على أربع نسوة، وغير ذلك. فحكم هذه الخصائص: أنه لا يقتدي به فيها، وتعتبر خاصة به .

ثالثاً: الأفعال المجردة عما سبق، وإنما المقصود بها التشريع. فهذه نطالب بالتأسي والاقتداء بها، غير أن صفتها الشرعية تختلف بحسب الوجوب أو الندب أو الإباحة. وتعرف صفتها مما يأتي:

تعيين الواجب من أفعاله : ويتعين ذلك بأمور منها:

(1) القول، بأن ينص النبي  بالقول على أن ما فعله واجب عليه. مثل قوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي "( )، وقوله " خذوا عني مناسككم"( ).

(2) أن يكون الفعل قد ورد مورد البيان، لقول دالِّ على الوجوب. ومثاله: فعله لأعداد الركعات في الصلوات المكتوبات، هو بيات لقوله تعالي:

   ( ).

وشبيه بذلك أن يقع الفعل امتثالاً لآية دال على الوجوب، فيعلم أنه واجب، ومثاله صوم شهر رمضان، فإنه واجب، لأنه امتثالاً لقوله تعالي:

      ( ).

(3) أن يكون موافقاً لفعل نذره، كما لو قال : إن هزم الله العدو غداً فله علىّ أن أصوم يوم كذا، فصامه على إثر هزيمة العدو، فيعلم أن ذلك وقع وفاء للنذر( ). وقد قال الزركشي: " أن يقع الفعل جزاء الشرط، كفعل ما وجب بالنذر إن قلنا إن النذر غير مكروه "( ).

(4) التسوية بين الفعل وفعل آخر في حكمها( )، بأن يفعل النبي  فعلاً ثم يقول: هذا الفعل مثل الفعل الفلاني، وقد علم حكم هذا الفعل الآخر. ولو خُيّر بين فعلين، أحدهما قد عُلم أنه واجب، فالآخر مثله، لأن التخيير يقتضي التسوية( )، إذ لا يمكن التخيير بين الواجب وما ليس بواجب.

(5) أن يكون وقوعه مع أمارة قد تقرر في الشريعة أنها أمارة للوجوب، كالصلاة بأذان وإقامة( ).حيث لم يعهد في الشريعة الأذان والإقامة لصلاة غير واجبة.

(6) قال بعض الأصوليين: أن يكون الفعل لو لم يكن واجباً، لكان ممنوعاً( )، كالركوع الثاني في صلاة الكسوف. فإنه لو زيد في الصلاة ركوع قصداً، ولم يكن من أركانها، كصلاة الظهر، فإنها تبطل، فلما زيد في صلاة الكسوف ركوع قصداً، كان ذلك الركوع واجباً، لا يجوز الإخلال به.

ومثاله أيضاً: سجود السهو، فإنه لو لم يكن واجباً لما جاز.

تعيين المندوب من أفعاله ويتعين ذلك بأمور منها:

(1) بالقول، ومثاله أنه سئل  عن صيامه ليومي الاثنين والخميس، فقال: "تعرض الأعمال على الله يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم "( ). فبين أنه استحب صيام اليومين المذكورين، ولو كان صومهما واجباً لما ذكر هذا، بل كان يبيّن وجوبه.

(2) أن يكون الفعل بياناً لقول دال على الندب، أو امتثالاً له.

(3) أن يسّوى بين الفعل وفعل آخر مندوب، والتخيير تسوية، لأنه لا يخير بين ما هو مندوب، وما ليس بمندوب.

(4) أن يكون وقوعه مع قرينة قد تقرر في الشريعة أنها أمارة للندب، على وزن ما قالوه في الوجوب.

(5) أن يقع الفعل قضاء لمندوب( )، كالركعتين بعد صلاة العصر صلاها النبي بدلاً عن الركعتين اللتين بعد الظهر.

(6) المواظبة على الفعل في العبادة، مع الإخلال به أحياناً( ). لغير عذر ولا نسخ، أو كونه بالاستقراء مما لا يكون واجباً، يدل على استحبابه بخصوصه. ومثاله: أن النبي  كان يقرأ في الصبح يوم الجمعة (آلم، تنزيل…) و (هل أتي على الإنسان …)، فدلّ ذلك على استحباب قراءتها في تلك الصلاة، ومثلها القراءة في الجمعة بـ (سبح) و(الغاشية)، وفي العيد بـ (ق) و (اقتربت). فقد أخلّ ببعض ذلك، إذ كان يقرأ أحياناً في الجمعة بسورة (الجمعة)، وسورة (المنافقون)، وفي العيد بـ (سبح)

و(الغاشية). هذا بالإضافة إلى أنه لم يعهد في الشريعة وجوب تخصيص صلاة معينة بقراءة معينة( ).

تعيين المباح من أفعال : ويتعين ذلك بأمور منها:

(1) النص كقوله : " استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي "( ).

(2) أن يكون بياناً أو امتثالاً لآية دالة على الإباحة، كأكله  من الغنيمة، امتثالاً لقوله تعالي:       ( ).وأكله من لحم الهدي، امتثالاً لقوله تعالي:       ( ).

(3) التسوية بينه وبين فعل معروفة إباحته.

(4) انتفاء دليل يدل على الوجوب أو الندب، وذلك لانحصار أفعاله  في الأنواع الثلاثة، فإذا لم يثبت الوجوب ولا الندب، حمل على الإباحة لأنها الأصل( ).

7-طرق معرفة سبب الفعل

الأفعال من حيث تعلقها بالأسباب على أنواع( ):

الأول: ما هو مرتبط بالعبادة ارتباط الجزء بالكل. فهذا لا يطلب له سبب، وذلك كالركوع والسجود بالنسبة إلى الصلاة. وليس معني ذلك أن كل أجزاء العبادة يجرى هذا المجرى، بل منها ما يتبع سبباً خاصاً: كالقنوت فإنه مرتبط بالوتر، وسجود السهو، فإنه مرتبط بالسهو في الصلاة، وكسجود التلاوة فيها، فسببه تلاوة السجدة.

الثاني: النوافل المطلقة، من صلاة وصدقة وأذكار مطلقة، وغير ذلك، فإنها ليست منوطة بسبب من الأسباب. وكذلك ما يفعله  من المباحات على الإطلاق، لا يطلب لها سبب، لأنها تفعل لملائمة الطبيعة البشرية.

الثالث: ما هو مقيد بسبب زماني، كالصلوات الخمس، وقيام الليل، وبعض الصوم كصوم رمضان، وست من شوال.

وبين القرافي إن الصوم لا يكون منوطاً بالمكان، أما الصلاة فقد تناط بالزمان، وقد تناط بالمكان( ). كما تقدم في الأمثلة، أو بسبب حادث من الحوادث، كصلاة الكسوف، أو بسبب مناسب يتضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة، كصلاة الاستسقاء عند القحط.

وسبب الفعل يعرف بطرق: إما أن يعرف بالنص القولي الصريح أو غير الصريح، أو بالإجماع، أو الإيماء، أو قول الصحابي، أو الاستنباط، أو المناسبة( ).

الطريقة الأولي: إثبات العلة بالنص الصريح أو الظاهر، أو بالإيماء بالقول. والنص إما من كتاب الله تعالي، وإما من رسول الله ، كقوله إذ شمّت أحد العاطسين، ولم يشّمت الآخر: " إن هذا حمد الله فشّمتُه، وإنك لم تحمد الله "( ).

ومثال الإيماء بالقول: أنه  خلع نعليه في الصلاة، فخلعوا نعالهم، فلما سلّم قال لهم في ذلك، فقالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال: " إن جبريل أخبرني إن فيها أذى "( ).

الطريقة الثانية: الإيماء بالفعل. ومثاله أن يفعل النبي  فعلا بعد أمر طارئ، فيعلم أنه سبب الفعل.

ومن ذلك أنه  نقص من الصلاة سهواً وسلّم، فلما قيل له، أتم الصلاة، وسجد سجدتين وسلم. فإن إيقاعه سجدتين في آخر الصلاة لا يعهد في الصلاة، فارتباطهما بالنقص سهواً أمر واضح، وإلا لكانا لغواً لا يليق به ( ).

الطريقة الثالثة: إثبات السبب بالإجماع. فإذا أجمعت الأمة على أن فعلاً من أفعاله  كان لسبب كذا، فإنه يتعين.

الطريقة الرابعة: إثبات السببية بقول الصحابي. وذلك أن الصحابي يرى الفعل، ويشاهد ما يحتف به من القرائن الدالة على سببه، وهو عدل عارف باللغة. فالظاهر أن ما أخبر بسببيته هو السبب حقاً، بل لا يبعد أن يكون سمع من النبي  قولاً يدل على السببية، فتنقل إلينا السبب ولم ينسبه إلى قول النبي 

ومثال ذلك قول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي  إذا كان جنباً وأراد أن يأكل أو ينام توضأ "( ). فبينت رضي الله عنها أن الأكل والنوم على الجنابة سببان لوضوئه.

وقولها: " كان إذا دخل العشر، شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله "( ). فبينت أن سبب الاجتهاد في العبادة عشر رمضان الأخير.

الطريقة الخامس: أن يعرف السبب بالاستنباط، وذلك إما بالسّبْر والتقسيم، أو بالمناسبة، أو بالدّوران.

فمثال الأول: وهو معرفة السبب بالسبر والتقسيم، أنه  صلي يوم عرفة ركعتين وخطب، فقيل كانت خطبته للجمعة، لأنه وافق يوم الجمعة، وقيل إنها خطبة لعرفة، والركعتان ظهر مقصورة.

فلمّا علمنا أنه سّر في الركعتين بالقراءة، علمنا أن الخطبة ليست للجمعة، فلا يبقي إلا للوقوف بعرفة، وعليه فتقتدى به ، فيثبت للوقوف بعرفة خطبة.

ومثال الثاني: وهو المناسبة، أنه  حسم يد السارق بعد القطع، والغرض حفظ العضو من التلف.

ومثال إثباته بالدوران: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "عرضت على النبي  يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة ، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة فأجازني "( ).

احتج به لمذهب الشافعي وأحمد في أن المدة التي إذا بلغها الإنسان ولم يحتلم حُكِمَ ببلوغه، هي خمس عشرة سنة، فقد أجاز ابن عمر في القتال بخمس عشرة سنة، ولم يجزه فيما دونها، فدل على ذلك( ).

8-هل يتوقف الاقتداء بالأفعال النبوية على معرفة أسبابها؟

إن الأفعال بالنسبة إلى هذا الأمر تنقسم إلى أربعة أقسام( ):

أولاً: ما لا يتوقف على سبب.

ثانياً: ما فعله لسبب معلوم، وهو مستمر بعده.

ثالثاً: ما فعله لسبب فزال.

رابعاً: ما جهل سببه.

القسم الأول: ما لا يكون مرتبطاً بسبب أصلاً، بل هو مطلق، كنوافل الصوم والصلاة. فهذا يفعل اقتداء به، ويفعل مطلقاً، كما أن المتأسىَّ به مطلق.

فلا يجوز ربط نوافل بأسباب لم يربط بها النبي  فعله. فمن اقتدي به  في نوافل الصلاة المطلقة، لا يجوز أن يفعلها مرتبطة بأسباب من عنده.

ووجه ذلك: أن سببية السبب الشرعي هي حكم شرعي، والحكم الشرعي لا يجوز إثباته إلا بدليل.

القسم الثاني: ما علم ارتباطه بالسبب. وهو ما كان الفعل في الأصل ممنوعاً أو مكروها، وقد فعله  لسبب.

وهذا القسم لا يجوز فعله بلا سبب، ويدخل في هذا القسم الرخص والعقوبات والعبادات الخاصة المرتبطة بالأسباب.

فمن الأول (الرخص): كجمعه  بين الصلاتين إذ إن فيه تقديم الصلاة عن وقتها، أو تأخيرها عن وقتها، وكلاهما حرام، وإنما يجوز الجمع عند سببه.

ومن الثاني (العقوبات): وهي منوطة بأفعال معينة صدرت من المكلفين الذين أوقعت بهم، كقطع يد السارق، ورجم الزاتي الثيب. قال الشوكاني: " ما يفعله  مع غيره عقوبة له اختلفوا فيه، هل يقتدي به أم لا؟ فقيل يجوز، وقيل هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب، وهذا هو الحق. فإن وضح لنا السبب الذي فعله لأجله، كان لنا أن نفعل مثل فعله عند وجود مثل ذلك السبب، وإن لم يظهر السبب لم يجز "( ).

ومن الثالث (العبادات الخاصة المرتبطة بالأسباب): فلا تفعل إلا عند وجود سببها، كصلاة الكسوف، وسجود السهو، وكالقنوت في الصبح على رأي ابن تيمية ومن وافقه، فإنه يراه منوطاً بالنوازل، بناء على حديث أنس أنه  : " قنت شهراً بعد الركوع في صلاة الصبح يدعو على رِعْلٍ وذَكْوانَ "( ). قال ابن تيمية، بعد أن ذكر حكم القنوت: " هذا النزاع الذي وقع في القنوت، له نظائر كثيرة في الشريعة. فكثيراً ما يفعل النبي  لسبب فيجعله بعض الناس سنة، ولا يميز بين السنة العارضة والدائمة "( ).

القسم الثالث: ما فعله لسبب فزال: أي ما فعله النبي  لمعني معين، ثم زال ذلك المعني. نقل فيه الزركشي( ). عن الماوردي حكاية قولين للشافعية.

القول الأول: وقد قاله أبو إسحاق المروزي أننا لا نفعله لزوال معناه إلا بدليل يدل على ما فعله بعد زوال المعني.

القول الثاني: ونسبة إلى ابن أبي هريرة: يقتدي به وإن زال معناه، نظراً إلى مطلق التأسي، لقوله تعالي: " واتبعوه "، ولما ورد في السنة من أن النبي  في عمرة القضاء وأصحابه اضطبعوا بأرديتهم ورملوا في الطواف من الحجر الأسود إلى الركن اليماني، ومشوا من اليماني إلى الأسود، فعلوا ذلك ثلاث مرات، وبين  الغرض بقوله: " رحم الله امرأ أراهم من نفسه اليوم قوة"( ). وكان المشركون قد وقفوا في المسجد الحرام من جهة الحِجْر، وقد قالوا فيما بينهم: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمّي يثرب. فأمر النبي  أصحابه بذلك، ليظهروا الجلد والقوة والنشاط، إرغاماً للمشركين، وكسراً لحدة سخريتهم.

ثم بعد ذلك فتحت مكة، وقضي على قوة الشرك، ففعل النبي  هو وأصحابه في طواف القدوم ما فعلوه في عمرة القضية، مع زوال السبب، فلم يكن هناك مشركون يقفون من جهة الحِجْر، ينظرون إلى المسلمين تلك النظرة.

فدل ذلك على أن ما فعله لغرض فزال، أنه يستمر حكمه.

وعندما حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأتي المطاف قال: " ما لنا وللرمل، إنما كنا راءينا به المشركين "( ). ثم قال: " شيء فعله رسول الله  لا نحبّ أن نتركه ".

وفي رواية أبي داود، قال عمر: فيم الرّمَلان والكشف عن المناكب وقد أطّأ الله الإسلام، ونفي الكفر وأهله؟ مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع رسول الله  "( ).

ويرى الباحث أن القول الأول أرجح، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: أن الفعل إذا زال سببه، فلا يتّبع، لأن الفعل الذي فعل لغرض إنما يكون اتباعه لتحصيل ذلك الغرض.

ثانياً: كما أن السببية حكم شرعي، فإن كان الشيء مما لا يفعل إلا عند السبب، لم يجز فعله بعد زوال السبب.

ثالثاً: يستدل لذلك أيضاً بأن النبي  خلع نعليه في الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم. فلما سلم قال لهم: " لم خلعتم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا. قال: " إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيها أذى، فإذا جاء أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن وجد فيهما أذى أو قذراً فليمسحه، وليصل فيهما "( ).

أما إذا زال السبب فلا، كما يشير إليه الحديث.

أما سبب استمرار الرمل والاضطباع سنة، حتى بعد أن انقضي السبب، فلأن هذا النوع من الأفعال غير ما تقدم ذكره، وذلك لأن الشرع دل على أنه يراد لهذا الفعل أن يكون صفة من صفات الطواف مشروعة فيه، حيث إن كثيراً من أفعال الحج مثلاً اتخذت فيه أفعال وأحوال متقدمة، من أيام نبي الله إبراهيم عليه السلام وأسرته، وقعت منهم، فاتخذت نموذجاً وضعت على مثاله أفعال الحج.

ولنعتبر ذلك بالسعي بين الصفا والمروة، فأصله سعي أم إسماعيل بينهما لتطلب الماء لابنها الذي تركته يضغُو عند زمزم. فعلت ذلك سبعاً، وقد هرولت في المنخفض الذي هو بطن الوادي. فُوضِع السعي على مثال ذلك، وجُعل جزءاً من أجزاء الحج، يقول ابن عباس رضي الله عنها مشيراً إلى هذه القصة، كما روي البخاري، قال رسول الله  : " فذلك سعي الناس بينهما "( ).

وكذلك تضحية سيدنا إبراهيم عليه السلام بالكبش اتخذت أساساً لمشروعية الهدي، وقد أمرنا باتخاذ مقامه مصلي.

" وهذه الأفعال أبقيت في العبادات مستمرة دائمة، كما تبقي الأمم بعض الآثار الحسية المشاهدة لتدلها على عظمة أسلافها السابقين، ولتكون ذكراها ماثلة أمام الأبناء، تثيرهم نحو التضحية والفداء، والاقتداء بسابقيهم من المعظمين. فهذه آثار من الحجارة والطين، وتلك آثار من التفاني في طاعة الله "( ).

يقول ابن دقيق العيد في شأن بقاء الرمل والاضطباع ونحوهما مما بقي من الأحكام بعد زوال سببه : " في ذلك من الحكمة تذكر الوقائع الماضية للسلف الكرام، وفي طيّ تذكرها مصالح دينية، إذ يتبين في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر الله، والمبادرة إليه، وبذل الأنفس في ذلك. وبهذه النكتة يظهر لنا أن كثيراً من الأعمال التي وقعت في الحج، ويقال بأنها (تعبد) ليست كما قيل. ألا ترى أنا إذا فعلناها وتذكرنا أسبابها، حصل لنا من ذلك تعظيم الأولين، وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله، فكان هذا التذكر باعثاً لنا على مثل ذلك، ومقرَّراً في أنفسنا تعظيم الأولين، وذلك معني معقول"( ).

ثم ذكر أن السعي بين الصفا والمروة اقتداء " بفعل هاجر، وأن رمي الجمار سببه فعل إبراهيم، إذا رمى إبليس بالجمار في هذا الموضع "( ).

فما جعل مثالاً كالرمل والاضطباع يتبع، دون ما لم يجعل مثالاً. والفرق بين النوعين، أن الأول وضعته الشريعة أسلوباً للعبادة، ولم تضع الثاني.

والحاصل أن الفعل النبوي إذا فعل لسبب ثم زال السبب، فإنه لا يقتدي به إلا بدليل بدل عليه.

القسم الرابع: ما فعله ولم نعلم سببه. ويدخل في هذا القسم ما جهل سببه بالكلية، ويدخل أيضاً ما دار بين أمور لا يدري أيها هو السبب، ولم يترجح واحد منها.

والاقتداء بأفعال هذا القسم أعلى من الاقتداء بأفعال القسم السابق، لأن ما علم زوال معناه قطعاً لا يوازي ما جهل معناه، مع احتمال أن يكون باقياً في حق المقتدى، إذ إنه قد يفعله حينئذ احتياطاً لعله أن يصادف السبب، ومن أجل ذلك كان حكمه أخفي.

وقد قال أبو إسحاق المروزي في هذا النوع: يقتدي به( )، وضمه إلى ما علم معناه وكان باقياً، ولم يضمه إلى ما زال معناه.

وكذلك قال السبكي: " يقتدي به بالإطلاق "( ). وقال النووي أيضاً: "يستحب التأسي به قطعاً "( ).

وقد مثل له السبكي في قواعده: بالذهاب للعيد من طريق، والرجوع من طريق آخر، وجعل تكرار ذلك منه  دليل مشروعيته. وذكر أن الشافعية قالوا في معناه أقوالاً منها: أنه كان يطيل طريق الذهاب لتحصيل الفضيلة، ثم يرجع من طريق أقصر. قال: هذا هو الراجح عند الأكثرين. وقيل: ليتصدق فيهما، وقيل ليسوّي بين أهل الطريقين، وقيل ليشهد له الطريقان، وقيل ليغيظ المنافقين بإظهار الشعار، وقيل غير ذلك. فهو مثال لما تردد فيه الفعل بين أسباب( ).

ومثال ما لم ينقدح فيه سبب أصلاً: تقبيل النبي  للحجر الأسود، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وقف عند الحجر: " إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر. وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله  قبلك ما قبلتك "( ).

وهذه قاعدة ينبني عليها الاقتداء بأفعال كثيرة مما فعله النبي  من الأمور المشروعة التي لم تعلم أسبابها فإنها ينبغي أن تكون محلاًّ للقدوة.











نتائج البحث

تتمثل نتائج البحث في النقاط التالية:

أولاً: تنقسم السنة من حيث أثرها التشريعي إلى أنواع: تشريع وتبليغ، وفتوى، وقضاء، وإمامة وإمارة، وبشرية محضة.

ثانياً: تصرف الرسول  بالرسالة (تشريع وتبليغ) والفتيا شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، لأنه أصل وظيفته .

ثالثاً: تصرفه  بالقضاء، وتصرفه بالإمامة، من سنته لا يجوز لأحد أن ينشئ الأحكام بناء عليها إلا أن يكون قاضياً في مثل المقام الذي قضي فيه رسول الله ، أو حاكماً على رأس دولته فوضت إليه مصالحها وشئونها.

وليس ما فعله  ملزماً لكل قاض أو حاكم، وإنما الاتباع والاقتداء في المبدأ الأصلي وهو بناء الأحكام في القضاء على البينات والأسباب، وبناء التصرفات السياسية على ما يحقق مصالح الأمة ومنافعها.

رابعاً: السنة نوعان: السنة التشريعية، وهي ما تعلقت بالرسالة والتبليغ والفتيا. وغير تشريعية: وهي التي تمثل إنشاء الرسول  باجتهاده في فروع المتغيرات الدنيوية، التي لم يرد فيها وحي ولا شرع إلهي بميادين ممارساته لشئون الإمامة والدولة والحكم والقضاء.

خامساً: إن الشريعة جاءت بأحكام معينة أراد الله بها أن تكون في الدين، وترك ما سوى ذلك، فلم يتعرض له وهو " العفو "

سادساً: إن مسألة العفو لها ضوابطها الشرعية، وإن حديث " أنتم أعلم بشئون دنياكم " لا يصح الاستدلال به على إباحة التغيير في المعاملات، لأنه تطرق إليه أكثر من احتمال، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال، سقط به الاستدلال.

سابعاً: أفعال النبي  ثلاثة أنواع: أفعال جبلية على الإباحة، وأفعال خاصة بالنبي  لا يقتدي به فيها، وأفعال مجردة قصد منها التشريع فهي على الاقتداء، غير أن صفتها الشرعية بحسب الوجوب أو الندب أو الإباحة.

ثامناً: طرق معرفة سبب فعل الرسول : إما أن يعرف بالنص القولي الصريح أو غير الصريح أو بالإجماع أو الإيماء أو قول الصحابي أو الاستنباط أو المناسبة.

تاسعاً: إن الفعل النبوي إذا فعل لسبب ثم زال السبب، فإنه لا يقتدي به إلا بدليل يدل عليه.

وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى أهله وصحبه وسلم،،



المصـــادر

- الإحكام في أصول الأحكام- للآمدي- دار الحديث، القاهرة.

- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام- للقرافي- تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة- طبعة حلب سنة 1967م.

- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول- للشوكاني- دار الفكر، بيروت.

- الأشباه والنظائر- للسيوطي- دار الكتب العلمية.

- إعلام الموقعين عن رب العالمين- ابن قيم الجوزية- تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد- دار المعرفة- بيروت.

- أفعال الرسول  ودلالتها على الأحكام الشرعية- محمد سليمان الأشقر- دار النفائس، الأردن- ط (1) 1424هـ/ 2004م.

- البحر المحيط- للزركشي- دار الكتب العلمية.

- بداية المجتهد ونهاية المتقصد- ابن رشد القرطبي- تحقيق: محمد سالم وآخرون- مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.

- تأويل مختلف الحديث- لابن قتيبة- دار الكتب العلمية.

- تعليل الأحكام- محمد مصطفي شلبي- دار النهضة العربية- بيروت 1981.

- جامع الأصول من أحاديث الرسول - لابن الأثير- تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط- دار الفكر، بيروت- ط(2) 1403هـ/ 1983م.

- حجة الله البالغة- للدهلوي- تحقيق: عثمان جمعه خميرية- مكتبة الكوثر، الرياض، ط (1) 1420هـ/ 1999م

- الخراج- لأبي يوسف- المطبعة السلفية ومكتبتها.

- الخراج- يحيى بن آدم القرشي- تحقيق: أحمد شاكر- دار التراث الإسلامي، القاهرة.

- سلسلة الأحاديث الصحيحة- للألباني- مكتبة المعارف، الرياض 1415هـ/1995.

- سنن ابن ماجة- تحقيق: الألباني- مكتبة المعارف، الرياض- ط(1).

- سنن أبي داود- تحقيق: الألباني- مكتبة المعارف، الرياض- ط(1).

- سنن الترمذي- تحقيق: الألباني- مكتبة المعارف، الرياض- ط(1).

- السنة التشريعية وغير التشريعية- محمد سليم العوا وآخرون- مكتبة نهضة مصر.

- سنن الدار قطني- دار المعرفة، بيروت- ط (1) 1406هـ/1986م.

- السنن الكبرى- لللبيهقي- دار المعرفة، بيروت - ط (1) 1406هـ/1986م.

- سنن النسائي- تحقيق: الألباني- مكتبة المعارف، الرياض- (1).

- السنة والتشريع- عبد المنعم النمر- دار الكتاب المصري، القاهرة.

- السنة والتشريع- موسى شاهين لاشين- هدية مجلة الأزهر لشهر شعبان 1411هـ.

- شرح السنة- للبغوي- تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرناؤط- المكتب الإسلامي- ط (2) 1403هـ/ 1983م.

- شرح العضد لمختصر ابن الحاجب- عبد الرحمن بن أحمد الإيجي- مطبعة الفجالة، 1394هـ/ 1974م.

- صحيح ابن حبان- تحقيق: كمال يوسف الحوت- دار الكتب العلمية، بيروت ط (1) 1407هـ/ 1987م.

- صحيح البخاري- ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي- مكتبة الصفا- ط (1) 1424هـ/ 2003.

- صحيح الجامع الصغير- للألباني- المكتب الإسلامي- ط (3) 1402هـ/ 1982م.

- صحيح مسلم- ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي- مكتبة الصفا- ط (3) 1424هـ/ 2004م.

- ضعيف الجامع الصغير- للألباني- المكتب الإسلامي- ط (3) 1402هـ/ 1982م.

- فتح الباري شرح صحيح البخاري- لابن حجر العسقلاني- المطبعة السلفية- ط (2)، 1405هـ.

- فتح القدير- كمال الدين بن الهمام- دار الكتب العلمية- ط (1)، 1415هـ.

- الفروق- للقرافي- تحقيق: محمد أحمد سراج، وعلي جمعه- دار السلام، القاهرة- ط (1) 1421هـ/ 2001م.

- الفقه الإسلامي بين المثالية والواقعية- محمد مصطفي شلبي- نشر جامعة الإسكندرية 1960م.

- كشف الخفاء ومزيل الإلباس- للعجلوني- دار التراث، القاهرة.

- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية- جمع: عبد الرحمن محمد النجدي وابنه- ط (1) 1398هـ.

- المستصفي من علم الأصول- للغزالي- تحقيق: محمد سليمان الأشقر- مؤسسة الرسالة- ط (1)، 1417هـ/ 1997م.

- مسند الإمام أحمد- تحقيق: أحمد شاكر وآخرون- دار الحديث، القاهرة- ط (1)، 1416هـ/1995م.

- المغني- لابن قدامة- دار الغد العربي، القاهرة.

- مقاصد الشريعة الإسلامية- محمد الطاهر بن عاشور- دار النفائس، الأردن- ط (2) 1421هـ/ 2001م.

- منهاج الوصول إلى علم الأصول- للبيضاوي- دار الفكر- الخرطوم- ط (1)، 1980م.

- الموافقات- للشاطبي- تحقيق: عبد الله دراز- المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة.

- نهاية السول في شرح منهاج الوصول- للاسنوي- عالم الكتب، القاهرة.

- نيل الأوطار- للشوكاني- دار الجيل، بيروت 1973م.



وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين