الخميس، 13 يناير 2011

الضمير الخلقي وكيفية تكوينه








الفصل الثاني

الضمير الخلقي وكيفية تكوينه





تمهيد:

يتميز الإنسان عن سائر الحيوان بالميل الفطري إلى الأخلاق، وبالتزامه الذاتي بقواعد ومعايير أخلاقية معينة يراعيها في شتى المواقف والاتجاهات وإن كانت سلطة الضبط الخارجي غائبة عنه.

ولا عجب فإن النفس البشرية مجبولة على الاستعداد للتكوين الخلقي، والتهذيب السلوكي، وفق عدة عوامل فطرية أهمها: عامل اللذة والألم، وعامل النفع، وعامل الخضوع لرقابة المجتمع وحمل هذه الرقابة في النفس، وعامل الالتزام بالقيم والمبادئ والمثل العليا.

أولاً: العوامل الفطرية التي تساعد على التكوين الخلقي( )

1- اللذة والألم:

الإنسان مفطور على الإحساس باللذة والألم، وهو بذلك ميال إلى كل ما يحقق له اللذة، وعزوف عن كل ما يسبب له الألم. ولهذا العامل تأثير كبير جداً في تربية الإنسان وتكوينه الخلقي، وتوجيهه السلوكي، لأنه يجذبه إلى السبل المحمودة التي تنتهي به إلى اللذائذ المعنوية أو الحسية، ويجنبه السبل المذمومة التي تلحق به الآلام المعنوية أو الحسية.

وقد أكدت السنة النبوية المطهرة أهمية هذا العامل في التربية الأخلاقية والسلوكية بما تضمنته من ترغيب في المحمودات، وترهيب في المذمومات، ووعد بالنعيم المقيم في الجنة، ووعيد بالعذاب الأليم في جهنم.

قال تعالى:           •   •   •    

      •       •          •                         ( ).

وعن عبد الله رضي الله عنه عن النبي  قال: إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صدّيقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا( ).

وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : "الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة. والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار"( ).

2- النفع والمضرة:

وكما أن الإنسان مفطور على طلب اللذة وتجنب الألم، فهو مفطور على حب كل ما ينفعه إن عاجلاً أو آجلاً، وترك كل ما يضره أو يؤول به إلى الخسارة والوبال.

ولهذا العامل تأثيره الكبير كذلك، في تنشئة الإنسان تنشئة أخلاقية سليمة وتوجيهه توجيهاً سلوكياً قويماً. وقد ركزت السنة النبوية المطهرة على أهمية هذا العامل بما تضمنته من تبشير بالثواب للمحسنين، وإنذار بالعقاب للمسيئين.

قال تعالى:                    •        ( ).

وعن عبد الله قال: قال رسول الله  : "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء"( ).

3- رقابة المجتمع في النفس:

يتميز الإنسان عن الحيوان في قدرته على امتصاص وتشرب الرقابة الاجتماعية، وحملها في طيات صدره، والالتزام بقواعدها وقيودها والخضوع لتعاليمها ولو في غياب السلطة الخارجية ورقابة الآخرين.

ولهذا العامل أثره الفعال في تكوين الضمير الخلقي، وطبع السلوك بالطابع الاجتماعي السائد، وغرس العرف والعادات والتقاليد والقيم الاجتماعية في نفس الفرد الإنساني منذ نشأته الأولى.

ولذلك فإنه لابد من مراعاة غرس العادات والتقاليد الاجتماعية السليمة في نفوس الناشئة، وتجنيبهم تشرب وامتصاص العادات والتقاليد الضارة، وعدم الاستبداد في تربيتهم الخلقية وقهرهم على معايير وقيم معينة قد لا تكون صالحة، وقد تتعارض مع عواطفهم ورغباتهم وحاجاتهم المشروعة، وإلا أصبح الالتزام الأخلاقي التزاماً ظاهرياً مبنياً على النفاق والتملق والخداع، سرعان ما يتخلى عنه الفرد في غيبة الرقيب الخارجي الذي يخشى عقابه.

ولن تصلح الرقابة الاجتماعية إلا إذا ارتبطت بالقيم والمبادئ والمثل العليا الصحيحة التي تكرم ذات الفرد وتحترمه، فإن أحسنت للمحسن فلتشجيعه، وإن عاقبت المسيء فلإصلاحه وتقويمه لا الانتقام منه وإذلاله، مع فتح باب التوبة له، والرجوع عن غيه، والصفح عنه، وعدم تحقيره المستمر بأخطائه السابقة.

وقد اهتمت السنة النبوية بميل الإنسان الفطري إلى الخضوع لرقابة المجتمع، وتشربها وامتصاصها منذ الصغر، وحملها في النفس في الكبر، والالتزام الذاتي بها وإن كان الإنسان في منأى عن السلطة الخارجية، وأكدت ضرورة ارتباط هذه الرقابة بالخلق القويم، والسلوك الكريم والقيم والمبادئ والمثل العليا، والمعاملات والعلاقات الشريفة بين أفراد المجتمع.

عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"( ).

وعن أبي موسى عن النبي  قال: "إنما الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير. فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة"( ).

وعن أبي سعيد سمعت: رسول الله  يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"( ).

4- الالتزام بالقيم والمبادئ والمثل العليا:

يولد الإنسان على الفطرة مؤمناً بالله تعالى، وهذا الإيمان هو رأس كل الفضائل. وبالتربية والتنشئة الصالحة يكتسب القيم والمبادئ والمثل العليا التي يمل إليها فطرياً.

وكلما زاد إيمان الإنسان بالله تعالى وقوي يقينه به، كلما استشعر رقابته وحضوره معه في السر والعلن، فيلتزم التزاماً ذاتياً متصلاً باتباع أوامره واجتناب نواهيه، وهو ما يكفل له التكوين الخلقي العظيم، والاستقامة السلوكية، وضبط النفس والنوازع، والتحكم في الميول والشهوات، واتباع سبل الخير والفضائل، وتوقي سبل الشر والرذائل، وحب الآخرين كحب النفس، والحرص على مصلحة الجماعة كالحرص على المصلحة الذاتية، والموازنة بين مطالب الدين والدنيا، والمعادلة بين حاجات البدن وشواغل الروح.

وقد اهتمت السنة النبوية بالتوجيه إلى تقوية الميل الفطري إلى القيم والمبادئ والمثل الأخلاقية العليا بالتربية الواعية السليمة، وغرسها في النفس منذ بواكير الحياة الأولى للإنسان، حتى يصبح مراقباً لله تعالى في كل شؤونه، مستشعراً لحضوره معه، فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه، ولا شك أن هذه الرقابة الإلهية هي أساس السمو الروحي والتهذيب الخلقي والتقويم السلوكي، لأن المؤمن يحملها في قلبه، وهي معه أينما كان في صحوه ومنامه، وفي حله وترحاله، وفي سره وعلنه، وفي وحدته ووجوده مع الآخرين.

قال رسول الله  في تعريف الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"( ).

وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: "قل آمنت بالله ثم استقم"( ).

وعن الحسن بن علي ... قال حفظت من رسول الله  : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة"( ).

وعن النواس بن سمعان الأنصاري قال: سألت رسول الله  عن البر والإثم، فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس"( ).

ومن ذلك يتضح أن الأخلاق تتكون بتنمية الميول والعوامل الفطرية في بيئة نقية صالحة، بحيث يمتزج فيها الجانب الفطري والجانب الكسبي.

وبهذا المعنى نجد أن الأخلاق إنما هي "سلوك" تتفاعل في صنعه العقيدة والعقل والعاطفة والانفعال والإرادة والعادة المألوفة.

وهذا السلوك يتأصل ويتأكد ويترسخ حتى تصبح تصرفات ومواقف واتجاهات الفرد الخلقية تصدر عنه بطريقة تلقائية سهلة وكأنها طبع جوهري فيه، لا تطبعا ظاهرياً عارضاً لديه.

ولعل أوضح تعريف للأخلاق، يشمل المعاني المتقدمة، هو التعريف الذي وضعه أبو حامد الغزالي بقوله: "فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية"( ).

والمقصود من هذا التعريف أن هيئة النفس التي يكون خلقها حسناً، تصدر عنها الأفعال المحمودة شرعياً وعقلياً واجتماعياً، وهيئة النفس التي يكون خلقها سيئاً، تصدر عنها الأفعال المذمومة شرعياً وعقلياً واجتماعياً، وذلك بطريقة مستمرة وليست عارضة أو مؤقتة، وبنوع من الثبات وعدم التكلف في القيام بالأشياء.

وتؤكد السنة النبوية هذا المعنى الإيجابي للأخلاق، حيث تجعلها من أعمال القلوب والنوايا الخيرة الثابتة، والدوافع الذاتية التي تتجنب التظاهر والزيف والتكلف وخداع الآخرين.

* قال رسول الله  في تأكيد الأعمال الأخلاقية الخيرة النابعة من الذات كأساس لتقييم البواعث والسلوك " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"( ).

* وقال  في تعريف الإحسان، وهو ما يؤكد الخلق كهيئة راسخة في النفس محركة لأعمالها، وباعثة لنشاطها: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ( ).

* وقال رسول الله  في تأكيد أهمية النوايا كبواعث أخلاقية تنبئ عن نقاوة الطوية وصدقها، أو عن فسادها وزيفها، وهو ما يبرز كيفية هيئة النفس الخلقية محمودة كانت أم مذمومة:

" إنما الأعمال بالنية، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" ( ).

وكان رسول الله  يدعو ربه تعالى إلى أن يجعل هيئة نفسه الخلقية محمودة، وفي هذا الدعاء تحفيز على التزام العمل الصالح والسلوك الصالح بالنية الصالحة حتى تنمو بذور الخير في النفس، وتصقل الاستعدادات الفطرية للاستقامة والطهارة، وتكتسب النفس كل سمات الهدى والتقوى والصلاح وهو ما يجعلها راضية مرضية، تشع بالخير على كل من حولها.

* عن زيد بن أرقم قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله  يقول، كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر. اللهمَّ آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهمَّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها"( ).

وتؤكد السنة النبوية على أن تكون هيئة النفس الخلقية سامية مترفعة على السفاسف والدنايا التي تسيء إلى الإنسان، وتعطي عنه صورة أخلاقية مذمومة.

* قال رسول الله  : " إن الله تعالى يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها"( ).

على أن تعريف الأخلاق بكونها هيئة راسخة في النفس لا يعني عدم قبول الأخلاق للتغيير إطلاقاً، إذ أن الأخلاق تتغير بالتربية والتعليم والتوجيه والإرشاد والرياضة النفسية، وهو ما نراه واقعاً في حياتنا اليومية. فمثلاً: يمكن للفرد المنفعل أن يتعود شيئاً فشيئاً على ضبط نفسه والتحكم في انفعالاته، والاعتدال في سلوكه خاصة عندما يجد التوجيه التربوي السليم، وهذا ما ورد تأكيده في السنة النبوية عندما دعت إلى مجاهدة النفس، وضبط الغرائز، والتحكم في الانفعالات، حتى لا ينحدر الإنسان في مهاوي الشهوات والنوازع والرغبات الضارة.

قال رسول الله  : " المجاهد من جاهد نفسه "( ).

وقال عليه الصلاة والسلام: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"( ).

وقال : "ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يمتلك نفسه عند الغضب"( ).

وقال عليه الصلاة والسلام: "خياركم أحاسنكم أخلاقاً "( ).

ومن أجل تغيير أخلاق الفرد، وأخلاق الجماعة نحو الأفضل دائماً، أكدت السنة النبوية المطهرة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلته أحد أسس الإيمان بالكامل، والإسلام الصحيح، وتوعدت تاركيه بعقاب الله تعالى، وبعدم استجابته لدعائهم.

عن اليمان عن النبي  قال : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم "( ).

وقال تعالى:  •      •    • •    ( ).

في هذه الآية الكريمة تأكيد لقابلية الأخلاق للتغيير، وحث على تغيير الأخلاق نحو الأفضل، وذلك بترك سبل الهوى الذي يقود إلى النار واتباع سبل الهدى الذي يقود إلى الجنة.

والسنة النبوية المطهرة وهي تؤكد قابلية الأخلاق للتغيير، إنما تدعو إلى الموازنة والاعتدال بين مطالب الدين والدنيا، وبين شواغل الروح وحاجات الجسد، ولم تقصد إطلاقاً إماتة الغرائز، أو كبت الرغبات، بل غاياتها إشباعها بالطريق السوي المشروع الذي يحفظ للإنسان حياته، ويزكي خلقه، ويطهر نفسه، ويسمو بروحه، وبهذا النهج الخلقي التربوي الديني الدنيوي المتكامل المتوازن، سبقت الفلسفات والنظريات التربوية التي كثيراً ما تغلب جانباً على حساب آخر، تبعاً لاهتماماتها واختصاصاتها بمجال دون غيره، فيقع الخلل والانخراط في انسجام جوانب الشخصية الإنسانية.

قال رسول الله  : " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد "( ).

ثانياً: مراحل النمو الخلقي

يبدأ النمو الخلقي لدى الإنسان منذ المراحل المبكرة لحياته، ويستمر حتى بلوغه سن النضج المكتمل الذي هو أساس التكليف وتحمل المسؤولية.

ويولد الإنسان على الفطرة ميالاً إلى الخير، وتعمل البيئة عملها المؤثر في تشكيل تلك الفطرة وفق استعداداتها وإمكانياتها الموروثة، فتمكنها التربية الصالحة من النمو السليم وحسن التكوين، وتطمس التربية الطالحة معالم الخير فيها، وتجعلها تجنح إلى المفاسد والشرور.

عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  " ما من مولد إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"( ).

ويمكننا تقسيم النمو الخلقي إلى ثلاث مراحل، وهي: مرحلة الطفولة المبكرة، ومرحلة الطفولة الوسطى والمتأخرة، ومرحلة البلوغ والمراهقة( ).



المرحلة الأولى للنمو الخلقي:

تبدأ عملية النمو الخلقي في المرحلة الأولى من عمر الإنسان، خلال طفولته المبكرة. وفي هذه المرحلة تتحكم في الطفل غرائزه وحاجاته ونوازعه، وتتطلب الإشباع حتى تستقيم حياته ويهنأ باله، وأي خلل فيها، أو شدة وقسوة في المعاملة، قد يؤدي إلى اضطراب الصحة النفسية والعقلية والوجدانية والجسمية للطفل.

وعلى الوالدين والمربين عدم تحميل الطفل، في هذه المرحلة، أية مسؤوليات أخلاقية عن تصرفاته ومواقفه وأنماط سلوكه وانفعالاته وردود أفعاله، لأنه غير قادر على التمييز والإدراك والحكم الصحيح، وأن يعاملوه بالرحمة والرفق واللين والتسامح.

وهذا ما وجهنا إليه رسولنا الأكرم  الذي لم يحمّل الأطفال أية مسئوليات في تصرفاتهم الخاطئة، وسلوكهم غير القويم وفق الأحكام الأخلاقية للراشدين، بل كان يعاملهم بالرحمة والرفق والعطف الذي يقدر طفولتهم العاجزة، ويعي عدم مسئوليتهم عن أفعالهم وتصرفاتهم لكونهم لم يبلغوا سن التمييز والإدراك بعد.

عن أبي قتادة قال: خرج علينا النبي ، وأمامه بنت أبي العاص على عاتقه فصلى، فإذا ركع وضع، وإذا رفع رفعها( ).

وهذا الحديث يشير إلى رحمة رسول الله  ورفقه بحفيدته، وعدم محاسبتها على ما لا تدركه، مثل ركوبها على عاتقه أثناء الصلاة وهي أقدس العبادات.

وعن عائشة: أن النبي  وضع صبياً في حجره يحنّكه، فبال عليه، فدعا بماء فاتبعه( ).

وفي الحديث إشارة إلى التجاوز عن أخطاء الأطفال غير المدركين، والتسامح معهم، لأنهم لم يبلغوا بعد سن المسؤولية والتكليف.

على أنه تجدر الإشارة إلى أن سن الطفولة المبكرة هي سنّ امتصاص وتشرب الأخلاق والفضائل والآداب الحميدة، عن طريق التوجيه الحكيم والإرشاد السليم، الذي يتمشى والنمو العقلي للطفل ومستوى إدراكه وتمييزه، فيبدأ شيئاً فشيئاً، وخاصة في نهاية مرحلة الطفولة المبكرة، في تعديل سلوكه، وضبط انفعالاته وتقويم أخطائه، واكتساب الصفات المحمودة التي ترضي الآخرين عنه، وتجعله محل قبولهم وتقديرهم، فيتوفر له الأمن النفسي والسكينة والطمأنينة، مما يجعل حياته هانئة سعيدة.

وهذا ما أكدته السنة النبوية ووجهت إليه الآباء والمربين.

عن عمر بن أبي سلمة يقول : كنت غلاما في حجر رسول الله  ، وكانت يدي تطيش في الصفحة، فقال لي رسول الله  : " يا غلام سم الله ، وكل بيمينك، وكل مما يليك. فما زالت تلك طعمتي بعد "( ).

وقال رسول الله : "حق الولد على والده أن يحسن اسمه، ويحسن موضعه، ويحسن أدبه"( ).

المرحلة الثانية للنمو الخلقي:

في المرحلة الثانية من حياة الإنسان وهي مرحلة الطفولة الوسطى والمتأخرة تتوسع دائرة علاقاته الاجتماعية، وارتباطاته بالآخرين في الحي والمدرسة وجمعيات النشاط، ويحتاج إلى التكيف السليم مع المواقف والاتجاهات الجديدة في حياته، ويبدأ في تمييز الأفعال وأنماط السلوك التي تكون محل رضا الآخرين أو سخطهم. ويرتبط سرور وسعادة الطفل برضا الآخرين عنه. كما يرتبط أمله وتعاسته بسخطهم عليه، وهو ما يعتبر البداية الصحيحة لتكوين الخلق القويم.

وهذا النمو الخلقي الإيجابي يجعل الطفل يحاول دوماً المواءمة بين رغباته ورغبات غيره، وبين نوازعه ودوافعه والقيم الدينية والخلقية والعرف والعادات والتقاليد الاجتماعية والنظام والقوانين، وبذلك تبدأ معالم "المسؤولية الأخلاقية" في البروز لدى الطفل حتى تتكامل في المرحلة الثالثة للنمو الخلقي، بتكامل النضج العقلي والوجداني للطفل.

وفي هذه المرحلة لابد من الاهتمام بالميل الطبيعي للمحاكاة والتقليد والاقتداء لدى الناشئ، لأنه من أهم أسس التربية الخلقية، واكتساب القيم والفضائل، وتنمية نوازع الخير في الإنسان.

وهذا ما أبرزته السنة النبوية المطهرة، ودعت إلى وجوب مراعاته بالتبصر الحكيم من طرف الآباء والمربين وكافة المسؤولين عن تعليم وتربية الناشئين، وأن يكونوا القدوة المثلى في الخلق القويم، والسلوك الكريم، وضبط النفس، واحترام الذات، والتحلي بالفضائل والخصال الحميدة.

قال رسول الله  : " ... والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم ... "( ).

ولا شك أن أُولى مسؤوليات الرعاية التي يشير إليها هذا الحديث الشريف، أن يكون الوالدان قدوة مثلى لأبنائهم في التقوى والصلاح وحسن الخلق.

قال رسول الله  : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ... "( ).

ومن أهم تأثيرات الوالدين في تربية الناشئين، التي يشير إليها هذا الحديث، تأثيرهم بالقدوة، وتأثر الأبناء بهم بالمحاكاة والتقليد، وامتصاصهم لكثير من صفاتهم الأخلاقية، ومواقفهم السلوكية، وسماتهم الانفعالية.

المرحلة الثالثة للنمو الخلقي:

في هذه المرحلة، وهي مرحلة البلوغ والمراهقة، يبدأ النمو الخلقي في الرسوخ والثبات، ويتكامل النضج العقلي والنفسي والاجتماعي في نهايتها.

وبذلك يصبح الإنسان قادراً على ضبط نوازعه، والتحكم في دوافعه، وإخضاع ذاته للمثل العليا التي تشرّبها ورسخها في داخل نفسه، وجعلها معياراً لمواقفه الأخلاقية وتصرفاته السلوكية، والالتزام الذاتي بها بغض النظر عن وجود السلطة الخارجية – المتمثلة في القوانين والنظم والعرف والعادات والتقاليد والرقابة الاجتماعية – أو غيابها.

وتكامل النمو الخلقي الذي يرتبط بتكامل النمو العقلي والنفسي والاجتماعي، هو أساس التكليف وتحمل المسؤولية وإقامة الجزاء المرتبط بالحرية وإرادة الاختيار لدى الإنسان، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً.

وقد أكدت السنة النبوية وجوب تحمل الإنسان لمسؤوليته الأخلاقية، بعد تكامل نموه الخلقي والعقلي والنفسي والاجتماعي، وتحمله للتكاليف والواجبات وكيفية أدائها، وضبطه لنوازعه وتحكمه في غرائزه، وسموه بذاته. وهي المرتبطة بحريته وإرادته وقدرته على الاختيار والتمييز والإدراك.

عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله  يقول : "المجاهد من جاهد نفسه "( ).

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : " الصبر عند الصدمة الأولى"( ).

وعن حذيفة قال: قال رسول الله : " لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، لكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا "( ).

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله  : "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"( ).

ثالثاً- أوساط التربية الخلقية:

تشترك عدة أوساط – ترتبط بها حياة الناشئ منذ فجر حياته الأولى وحتى وفاته – في رسم معالم التربية الخلقية، وتكوين الفرد أخلاقياً على نحو من الصلاح إذا كانت هذه الأوساط صالحة، وعلى نحو من الطلاح إذا كانت طالحة.

وفيما يلي نستعرض أهم هذه الأوساط وهي: الأسرة، والمدرسة، والرفاق، والمجتمع.

1- الأسرة:

تعتبر الأسرة الوسط الأول والأخطر في التكوين الأخلاقي للطفل وتوجيهه السلوكي، وتنمية قدرته على ضبط ذاته، والتحكم في نوازعه، وتعديل رغباته ومطالبه، وذلك لأن الأسرة هي أول مجتمع يقضي فيه الفرد حياته الأولى، ويرتبط به دموياً وعاطفياً في صغره وكبره، وفيها يتشرب التراث الأخلاقي والاجتماعي، ويتلقى التربية الدينية التي هي أساس الفضائل الأخلاقية، وباختصار فإن الأسرة في نظر علماء النفس والتربية هي المكان الأول ذو الخطورة الكبيرة في التنشئة الأخلاقية التي تتعدى تأثيراتها مرحلة الطفولة وتمتد حتى فترة اكتمال نضج الفرد العقلي والنفسي والاجتماعي.

وقد أكدت السنة النبوية المطهرة، خطورة دور الأسرة في التنشئة الأخلاقية، وتهذيب السلوك، واكتساب الناشئ للقيم والمثل العليا.

قال رسول الله  : "... والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم "( ).

وقال  : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه .." ( ).

وقال رسول الله : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع"( ).

وقال  : " حق الولد على والده أن يحسن اسمه، ويحسن موضعه، ويحسن أدبه "( ).

2- المدرسة:

تعتبر المدرسة، وغيرها من المؤسسات التعليمية، ذات تأثير كبير على التكوين الخلقي للفرد، وتوجيه سلوكه، وتعديل نوازعه ومواقفه واتجاهاته.

ولذلك وجب أن تراعي المناهج التعليمية خاصة، ونظم وبرامج المدرسة عامة، ربط الأهداف التعليمية والعلمية بالأهداف الأخلاقية، بحيث يكون التعليم وسيلة للترقية الأخلاقية، وتزكية السلوك، وغرس الآداب والقيم والمثل العليا والفضائل في النفوس، وتنمية القدرة على التمييز بين الهدى والضلال، والخير والشر، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والحسن والقبيح، وفهم الدور الأخلاقي والاجتماعي الإيجابي الذي يمكن أن يساهم به الفرد في الحفاظ على كيان مجتمعه من التفكك والانحلال.

وتجدر الإشارة إلى مراعاة أن المدرسين والمربين في المؤسسات التعليمية يعتبرون قدوة مثلى، وأسوة حسنة، لأبنائهم الذين يأخذون عنهم كثيراً من صفاتهم، ويمتصون منهم كثيراً من سماتهم بالمحاكاة والتقليد، وذلك من خلال محبتهم وإعجابهم وتقديرهم لهم، ونظرتهم إليهم على أساس أنهم يمثلون صورة الكمال في كل شيء.

وقد أكدت السنة النبوية في تضميناتها التربوية خطورة دور المؤسسات التعليمية عامة، ودور العلماء والمربين، ودور المعلم، في التنشئة والتكوين الأخلاقي، والتهذيب والتقويم السلوكي.

عن أبي هريرة  قال: كان دعاء النبي  : " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع"( ).

ومن حديث ابن وهب أن رسول الله  قال: " هلاك أمتي عالم فاجر، وعابد جاهل، وشر الشر شرار العلماء، وخير الخير خيار العلماء"( ).

وقال رسول الله  وقد مرّ على مجلس ذكر، ومجلس علم: " كل على خير، يقرأون القرآن ويدعون الله تعالى، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون وإنما بعثت معلماً"( ).

والتضمينات التربوية لهذه الأحاديث تؤكد على أهمية أن يكون العلم وسيلة لتقويم الخلق وتعديل السلوك، وتقوية الإرادة والقدرة على ضبط النفس، وفهم الأمور الأخلاقية السليمة. وإلا كان علماً لا نفع فيه للفرد أو للأمة، كما تؤكد على خطورة دور العلماء والمربين في توجيه الناشئة وتأثيرهم فيهم بالقدوة والإيحاء والمحاكاة والتقليد، ووجوب أن يكون الوسط التعليمي وسطاً نقياً طاهراً يدعم الاتجاهات الخيرة، ويقوّم الاتجاهات الخاطئة، يجد فيه الناشئون البيئة الصالحة التي تنمو فيها بذور الخلق الفاضل وتشب وتكبر وتعطي ثمارها هداية واستقامة للفرد، وصلاحاً وخيراً للمجتمع.

3- الرفاق:

وسط الرفاق يعتبر من أشد الأوساط تأثيراً في خلق الناشئ وتكوين طباعه، وتوجيه سلوكه واكتسابه للعادات المختلفة، وذلك لكون الناشئ يرتبط في هذا الوسط بأقرانه وأترابه من نفس عمره الزمني والنفسي والعقلي، وتشده إليهم عواطف قوية تبدأ مع تحوله الوجداني الطبيعي من أفراد الأسرة إلى أفراد الزمرة في الحي والمدرسة وجمعيات النشاط.

وقد أكدت السنة النبوية المطهرة تأثير الخِلاَّن والأقران في التكوين الخلقي والسلوكي للفرد، ودعت إلى حسن انتقائهم واختيارهم وذلك لتأثيرهم الإيجابي القوي إذا كانوا أخياراً، وتأثيرهم السلبي القوي إذا كانوا أشراراً، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن الفرد، وخاصة في طور نشأته الأولى وقبل اكتمال نضجه العقلي والوجداني، مرآة عاكسة لأفعال وتصرفات أقرانه حسنة كانت أم قبيحة.

عن أبي هريرة أن النبي  قال: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"( ).

وعن أبي موسى عن النبي  قال: " إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير. فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة "( ).

4- المجتمع:

للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد، بنظمه وتراثه وقوانينه وتقاليده وعاداته واتجاهاته أثر بليغ في التكوين الأخلاقي للناشئ، فالناشئ إنما يتشرب تراث مجتمعه الأخلاقي والاجتماعي والثقافي طيلة حياته منذ نشأته إلى وفاته، بل إنه يحمل تراث مجتمعه داخل ذاته، ويشعر نفسياً بالرقابة الاجتماعية ولو كان بمفرده.

ولذلك كان من أهم واجبات المربين والمسؤولين وأولي الأمر عامة أن تتظافر جهودهم، وتتكامل برامجهم في المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية والاجتماعية، بغية تنقية الحياة الاجتماعية من الشوائب، وتطهيرها من المفاسد، وتصفيتها من الانحرافات، فإنما الجيل الجديد صفحة بيضاء محايدة تنقش فيها قيم ومعايير وأخلاق المجتمع منذ الصغر.

ولن تفلح التربية داخل الأسرة، أو داخل المدرسة، مهما كانت سلامتها وإيجابيتها، في تكوين الخلق القويم لدى الفرد إذا كان المجتمع من حولها يعج بالفساد والانحلال، وينتشر فيه الفجور والضلال، لا يأتمر الناس فيه بالمعروف، ولا يتناهون عن منكر فعلوه.

وقد أبرزت السنة النبوية المطهرة خطورة تأثير المجتمع في التكوين الأخلاقي، ودعت إلى تطهير المجتمع وإقامة دعائمه على الفضائل والصالحات والتناصح بالخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرصاً منها على سلامة خلق الفرد الذي يرتبط بسلامة خلق المجتمع.

عن أبي سعيد الخدري  الله عنه أن النبي  قال: " إياكم والجلوس بالطرقات " فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. فقال: " إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه " قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله. قال: " غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "( ).

وعن تميم الداري أن النبي  قال: " الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم( ).

وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله  قال: " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشحّ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"( ).

وقال رسول الله  : " من رأى منكم منكراً فلغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "( ).

وعن اليمان عن النبي  قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم"( ).

رابعاً- الضمير والمسؤولية الخلقية:

يبدأ الضمير الخلقي في التكون لدى الإنسان منذ فجر حياته الأولى، ومن خلال صلته بالبيئة الخارجية: من والدين وأخوة وأقارب ورفاق ووسط اجتماعي، وتعامله مع النظم الاجتماعية السائدة، ومدى قدرته على التوفيق والموازنة بين رغباته ونوازعه وبين رغبات الآخرين، وبالقدر الذي تضبطه العقيدة الدينية والنظام الأخلاقي والاجتماعي.

وتحكم الطفل في بداية حياته دوافعه وحاجاته الطبيعية، ويطلب بإلحاح إشباعها وإرضاءها بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية التي لا يعيها بعد، ويحس بأن له الأمر وعلى غيره الطاعة وتلبية مطالبه.

وعندما يتقدم العمر بالطفل وينمو عقله ووجدانه بالتدريج، وتتوسع مداركه وفهمه وتزداد خبراته وتجاربه، وتتوثق علاقاته بالآخرين ويعي حدود هذه العلاقات ومتطلبات بنائها وتكييفها، يبدأ الطفل بعد ذلك في تعديل اندفاعه وانفعالاته وإلحاحه، في ضوء معرفته أنه قد لا تشبع كل رغباته وقد لا ترضي جميع نوازعه، وأنه كما يثاب على استجاباته ومواقفه الإيجابية، يعاقب على تصرفاته واتجاهاته السلبية، وهكذا وبالتدريج تتكون لديه "سلطة ضبط داخلية" هي منبع التزامه الذاتي بتجنب السلوك الخاطئ، الذي كان يجتنبه بتقويم من السلطة الخارجية، وهذا الضبط الأخلاقي الذاتي هو منبع سعادته ورضاه النفسي في حال إحسانه نتيجة لشعوره بالسرور، وهو مصدر قلقه وندمه وتوتره النفسي في حال إساءته نتيجة لشعوره بالذنب.

وبذلك نلمس أن الطفل كلما تقدم في العمر وازداد نموه العقلي ونضجه الوجداني، كلما نمت المعايير الأخلاقية داخل نفسه، وأصبحت صوتاً داخلياً يرشده في سلوكه وتصرفاته ومواقفه واتجاهاته الأخلاقية والدينية والاجتماعية.

وهذا ما يؤكده علماء النفس والتربية الأخلاقية الذين يرون أن الضمير يمثل: " معايير الفرد وقيمه ومبادئه العليا. إنه السلطة الضابطة العليا في الإنسان، فإذا لم يستجب الفرد لندائه فإنه سوف يعاقب عن طريق قوة داخلية من خلال الشعور بالذنب وكراهية الذات ونبذها "( ).

وبدراسة المضامين التربوية في السنة النبوية لا نجد ما يعارض القول بالضمير أو بالذات الأخلاقية العليا، أو بسلطة الضبط الذاتية وغير هذه من التسميات والمصطلحات التي تقرب معاني الضبط الخلقي الذاتي، بل نجد إشارات إيجابية كثيرة إلى الضمير الخلقي بمعنى الالتزام الذاتي الذي ينبني على خشية الله تعالى وخوفه، والإحساس بحضوره ومراقبته في السر والعلن، وطلب هداه والإنابة إليه والتوبة له واستغفاره على كل الأخطاء والذنوب.

قال تعالى:        ( ). وقال عز وجل:        ( ). وقال تعالى:  •      •    ( ). وقال عز وجل: •       ( ). وقال رسول الله  في تعريفه للإحسان، وهو من أهم أركان الإيمان والإسلام: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"( ).

وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: " قل آمنت بالله ثم استقم "( ).

وعن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله  يقول: "المجاهد من جاهد نفسه "( ).

وعن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله  يوماً، فقال: " يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"( ).

والسنة النبوية المطهرة، وإن كانت تجعل العقيدة في مقدمة العوامل المؤثرة على تكوين الضمير الخلقي، إلا أنها تعترف بتأثير العوامل الأخرى وخاصة الوسط الأسري والوسط التعليمي ووسط الرفاق، والوسط الاجتماعي.

إن السنة النبوية وهي تنشئ الفرد المسلم على الأخلاق القويمة، وتغرس في نفسه الفضائل والصفات الحميدة، وتقوي فيه الوازع الديني، تحمله المسؤولية تجاه ربه تعالى، ونفسه وأهله وأقاربه، وجيرانه والناس أجمعين، وكل ما يشاركه الحياة في هذه الأرض من حيوان ونبات وجماد، لأن الله تعالى جعل الإنسان خليفته في الأرض، وحمله "أمانة" لم يحملها لغيره، ولابد له من أن يقوم بواجباتها على الوجه الأمثل الذي يرتضيه دينه الحنيف وأخلاقه الإسلامية الفاضلة النابعة من ذاته المؤمنة بالله، لا المفروضة عليه من سلطة خارجية يزول تأثيرها بغيابها.

والسنة النبوية وإن كانت ترى أن الإنسان يولد على الفطرة طاهراً بريئاً غير مسؤول عن الخير والشر في بداية نشأته، إلا أنها تؤكد أن الله عز وجل أنعم على الإنسان دون سائر خلقه، بالعقل وبالحواس التي تمكنه من التمييز والإدراك والتعلم والفهم ومعرفة الأحكام الصائبة، كما أنعم عليه بالإرادة وحرية الاختيار وهداه النجدين أي طريق الخير والشر، وسبيل الهدى والضلال، وهذا كله يحمل الإنسان مسؤولية التكاليف والواجبات الملقاة على عاتقه عندما يتكامل نضجه العقلي والنفسي والاجتماعي.

قال تعالى:      •             ( ). وقال:           •  ( ). وقال:      ••        •          ( ). وقال:       ( ). وقال:                ( ).

وعن حذيفة قال: قال رسول الله  : " لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا "( ).

وعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: " بادروا بالأعمال، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا "( ).

وعن ابن عمر  الله عنهما عن النبي  قال: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "( ).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله  " إن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقاً "( ).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله  : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت "( ).

وعن عائشة قالت: قال رسول الله  : " الرحم مُعلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله "( ).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله  : " لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه "( ).

وعن أبي موسى عن النبي  قال: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" ثم شبك بين أصابعه( ).

وقال رسول الله  : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "( ).

وعن عبد الله أن رسول الله  قال: " عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض "( ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق