الخميس، 13 يناير 2011

أهمية الأخلاق في المجتمع المسلم








الفصل الأول

أهمية الأخلاق في المجتمع المسلم



1- تمهيد:

إن المنهج الأخلاقي الإسلامي هو الذي أوجد هذه الأمة: انتفضت من تراب الأرض فوصلت إلى علياء السماء، فإذا هي أمة صلبة متماسكة لا مثيل لها، تفتح وتعمّر وتبني وتقيم مُثلاً أخلاقية وإنسانية غير معهودة، وتنتشر في سنوات قليلة في رقاع الأرض، تنشر النور والهدى والصلاح.

ومرت الأمة المسلمة خلال مسيرتها الطويلة، بفترات قوة ومراحل ضعف .. وهي في كل مرة كانت تنتفض فيها نحو العلاء، فكانت تأخذ بأسباب التربية السليمة التي تحّول الأمة إلى قدرة عطاء متميز وتعيد الأمور إلى نصابها.

وللأخلاق الإسلامية دور رئيس في تطبيق النظام الإسلامي، فلن يكتب النجاح لمثل هذا النظام ما لم يعدّ له الجيل الذي سيطبقه. فليس من المعقول أن يطبق الأفراد النظام المفروض عليهم، إن لم يؤمنوا به ويعتقدوا فيه عن اقتناع وبصيرة. ومن هنا ندرك سر التربية الإسلامية التي بدأها الرسول  بتكوين العقيدة قبل نزول الأحكام الشرعية التفصيلية.

وعليه فكل نهضة إسلامية أو نظام إسلامي أو نصر مؤزر في معركة … يحتاج إلى جيل مسلم أُعدّ إعداداً تربوياً خاصاً، على المبادئ ذاتها التي قررها رب العزة وبيّنها كتابه الكريم، وطبقها رسوله الأمين ، وتعلمها بالتوجيه والقدوة الجيل الإسلامي الأول، الذي مثله وعبر عنه بكلمات بليغة الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه، حين سأله رستم قائد الفرس: ماذا جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

ولن تكون صحوة، ولن يكون نصر، ولن تكون دولة مسلمة، بدون جيل تربّى على مبادئ الإسلام يقوم بذلك.



2- طبيعة القيم في نظر الإسلام:

إن النظرة الإسلامية للقيم تتصف بالكمال، لأنها تنبع من المذهبية الكاملة، لأن مصدرها هو الله عز وجل الذي يعلم خبايا الإنسان والكون وسننه، التي في إطارها يتحرك الإنسان ويمارس وظيفته في الحياة          ( ).

كما أن النظام القيمي الإسلامي هو الذي يتشكل منه النظام الاجتماعي، ويقوم على أساس راسخ هو الإيمان بالله، "والإقرار بالعبودية الخالصة له، إذ أن هناك ارتباطاً بين طبيعة النظام الاجتماعي، وطبيعة التصور الاعتقادي، بل هناك ما هو أكبر من الارتباط الوثيق، هناك الانبثاق الحيوي، انبثاق النظام الاجتماعي من التصور الاعتقادي، هذا الانبثاق، ثم هذا التكيف، وجه من وجوه الارتباط بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي، بل منهج الحياة كله، بما فيه مشاعر الأفراد وأخلاقهم وعباداتهم وشعائرهم وتقاليدهم، وكل نشاط إنساني في هذه الأرض جميعاً"( ).

على هذا الأساس، فإن القيم التربوية من تعاون وصدق في القول وإخلاص في العمل ووفاء واحترام لكرامة الإنسان، وحب الخير للناس، وتقدير لأمانة الاستخلاف، وإغاثة الملهوف .. وصبر على الشدائد وغيرها من القيم التربوية الإسلامية، لا يمكن أن تنبع وتزدهر إلا في ظل الاعتقاد الصادق في الله ومراقبته بصفة دائمة. وهذا الشرط وحده هو الكفيل بضمان الحفاظ على المقاصد التي رمت إليها الشريعة الإسلامية. إن الإسلام يعتبر القيم عماد المجتمع وسنام نظامه، بل ونظام الأمة الاجتماعي كله، ولهذا السبب فإننا لا نجد أي مفهوم للأخلاقيات الشخصية أو التقوى يخلو من العمل الاجتماعي في ظل الإسلام، وبالتالي تحتل الشريعة مكانة سامية في إطار المجتمع الإسلامي. فإذا حدث خروج عنها، اختلت الشخصية الإنسانية وتأثر الفرد مادياً واجتماعياً، وانهار المجتمع بأكمله.

إن القيم التربوية في مفهومها الإسلامي تنشر أجنحتها على سلوك الإنسان في جوانبه الدقيقة لتضمن لها الارتقاء والتدرج في مستويات الكمال والذوق الرفيع. وإذا كان المسلمون يتفاوتون فيما بينهم في الأذواق والأشواق، فإن ذلك التفاوت يقوم على المقدار الذي يجنيه كل فرد من هؤلاء من الشحنات والدفقات التي تهبها القيم التربوية لكل متشبع بها، أي أن ذلك التفاوت ينبي – بتعبير آخر – على خط كل واحد من أفراد المسلمين في المسابقة والمسارعة إلى الخيرات التي يسعى المسلم أن يصل من خلالها إلى الله، فيقف بين يديه وهو على قدر كبير من الصفاء والارتقاء( ).

وضرورة ارتباط الأخلاق بالدين قائمة على أساسين( ):

الأساس الأول: يتعلق بصحة ومصداقية الأخلاق الصادرة من الدين وملاءمتها للفطرة.

والأساس الثاني: يتعلق بالشحنة القوية التي تتحرك بها الأخلاق عبر النفوس، والتي تستمد قوامها من مبادئ الدين.

وضرورة ارتباط الأخلاق بالدين تنبثق من شيء آخر، ذلك "أن الدين لا يقف عند الدعوة إلى مكارم الأخلاق وتمجيدها، إنه هو الذي يرسي قواعدها، ويحدد معالمها، ويضبط مقاييسها الكلية، ويضع الأمثلة للكثير من جزئيات السلوك، ثم يغري بالاستقامة، ويحذر من الانحراف، ويضع الأجزية مثوبة وعقوبة على كلا السلوكين نصب العين"( ).

أما الأخلاق النظرية التي يضعها الفلاسفة، فهي تولد باردة لا تجدي فتيلاً في تحريك النفوس وبعث الحرارة فيها، بل إنها تزيدها صقيعاً على صقيع، لأنها تقوم على أساس واه لا يكاد يثبت أمام عوادي الزمن وصروف الحياة، قال الفيلسوف الألماني "فيخته": الأخلاق من غير دين عبث. وقال الزعيم الهندي "غاندي": إن الدين ومكارم الأخلاق هما شيء واحد، لا يقبلان الانفصال، ولا يفترقان عن بعضهما البعض، فهما وحدة لا تتجزأ. إن الدين كالروح للأخلاق، والأخلاق كالجوارح للروح، وبعبارة أخرى: إن الدين يغذي الأخلاق، وينميها وينعشها، كما أن الماء يغذي الزرع وينميه( ).

إن حقيقة ارتباط الأخلاق بالدين قد أصبحت حاضرة، ويزداد الوثوق واليقين يوماً بعد يوم في أذهان العقلاء من الغربيين، الذين توصلوا إلى أنه بدون الدين لا يمكن أن تكون هناك أخلاق، وبدون أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون.

3- بداية الصراع:

لقد ظلت القيم الإسلامية تهيمن على حياة المسلمين منذ عصر النبوة، وعبر العصور التاريخية المختلفة، إلى أن جاءت الضربة القوية من جانب الاستعمار، فبدأت القيم الإسلامية في التلاشي، وبدأ كيان المجتمع الإسلامي في الانحلال.

وإذا كانت المهاول التي استخدمها الاستعمار (التنصير، البعثات الدراسية إلى الخارج، وسائل الإعلام، نشر المدارس الأجنبية في البلدان الإسلامية، الاستشراق) قد تضافرت في الإجهاز على الكيان الإسلامي وعلى الشخصية الإسلامية، "فإن حركة الاستشراق الماكرة ، قد كان لها في عقل المسلم ونفسه، وتحوله إلى جسم مشلول أو مقطوع الصلة بأمته وكيانه الحضاري الأصيل، بل أكثر من ذلك تجعله يتحول إلى عنصر هدم وتدمير في بناء الأمة، بحيث يتنكر لها ويناصبها العداء"( ).

لقد وجه الدارسون للإسلام والحضارة الإسلامية من المستشرقين جهودهم إلى تمهيد نفوس المسلمين لقبول واستقبال الهيمنة الأوربية بكامل الرضا والاطمئنان، والإقرار لها بالولاء. ومعنى ذلك، بل وسيلة ذلك هو إضعاف القيم الإسلامية عن طريق تقديم شروح وتأويلات تعسفية ومشوشة لمفاهيم الإسلام وقواعده، وصولاً بشباب المسلمين إلى مرحلة الشك واهتزاز اليقين بتعاليم الإسلام وقداستها.

ويعمل تلاميذهم الآن في ديار المسلمين على نفثها، فيخرج على أيديهم أجيال فارغة الفؤاد، بليدة الإحساس، يصدق عليها بحق قول المفكر والشاعر الإسلامي الكبير "محمد إقبال" رحمه الله: "إن الشباب المثقف فارغ الأكواب، ظمآن الشفتين، مصقول الوجه، مظلم الروح، مستنير العقل، كليل البصر، ضعيف اليقين، كثير اليأس .." ( ).

هذه هي الوضعية الأليمة المحزنة التي آلت إليها نتيجة الصراع بين حضارة الإسلام، بل بين مسلمين لم يحفظوا حضارتهم ولم يراعوا ميثاق وعهد ربهم، وبين حضارة الغرب … ولكن لسوء حظ هذا الغرب الشارد، فخزائن الإسلام لم تنفذ، وجذوة الإسلام لا يكاد يخبو أوارها، حتى تعيد الكرة من جديد، وتتوهج لاستعادة الحياة الإسلامية، على أساس القيم الإسلامية.

وإذا كانت الرؤية الإسلامية للحياة ونظام القيم المنبثق منها يؤديان بطبيعتهما إلى إقامة الانسجام والتكامل بين الإنسان والكون، بحيث يسيران بإيقاع متوازن، جنباً إلى جنب، نحو تحقق مراد الله في الوجود، فإن الرؤية المادية ونظامها القيمي يقودان حتماً إلى ارتطام الإنسان بالكون، إذ العلاقة بينهما تصور في إطار المنظور المادي في صورة الصراع الرهيب، وكأن

كلاً منهما قد وضع في استقلال عن الآخر. وأن ما يجري بينهما خلال عصور التاريخ هو عملية سطو وعداء، لا علاقة توافق وإخاء.

لقد أصبحت فكرة الصراع وهي التي تحكم حركة الإنسان المادي، الصراع مع كل شيء، مع نفسه، ومع الكون، ومع الآخرين، ولا مفر له من ذلك ما دام سجين النظرة المادية.

لقد ضربت النظرة المادية نفس الإنسان الغربي، وتركتها صفصفاً مهجورة من قيم الخير والاستقامة، وخرّبت بذلك المجتمع وفوّضت دعائمه وجففت منابع الخير والصلاح فيه.

4- القيم التربوية في المجتمع المعاصر:

فمثلاً قيمة العفاف أو العفة، إذا انطلقنا من تفسير علماء الأخلاق للعفة وهي "ضبط النفس واعتدال ميلها إلى اللذة، سواء في ذلك اللذائذ الجسمية من المأكل وغيره، واللذائذ النفسية من الانفعالات والعواطف". إذا انطلقنا من ذلك التعريف، ونظرنا في ضوئه إلى واقع المجتمع المعاصر، فإننا نراه بعيداً كل البعد عن معاني العفة، متهالكاً على الملذات، يعب منها بنهم لا ينتهي، وظمأ لا يرتوي، وليس ذلك بالغريب، إذ أننا لا يمكن أن ننتظر سلوك العفة أو خلق الاعتدال من أناس يعتقدون أن مساحة الحياة لا تتجاوز العالم الدنيوي الأرضي إلى عالم آخر من صفته الأبدية والخلود.

إنه عالم تنتهك فيه الأعراض وتذبح القيم، وتقدم قرباناً للعجل الذهبي. فلا مكان إذن للعفة والغيرة، في خضم الغرائز الهائجة والأهواء الطائشة، والمطالب التي لا تقف عند حد.

قيمة الصدق. إذا لم يكن هناك عفاف، فمن أين لقيمة الصدق أن تتسرب إلى ذلك المجتمع، إن المجتمع المعاصر أصبح محروماً من جهاز المناعة الذي يقيه من الجراثيم الفتاكة التي تنفذ إلى كيانه، ومن هنا فإن مالا يحصى من تلك الجراثيم السامة تنفذ إلى رئتيه وعقله وقلبه، تعبث فيه كما تشاء، دون أن يصدر منه أدنى رد فعل. "لقد أصبح النفاق والغش والكذب والتذبذب، وكلها صفات حذرت منها الأديان السماوية، إلى جانب تنافيها مع المثل الإنسانية التقدمية والمعنوية والفلسفية والخلقية، أصبحت هذه الصفات ضرباً من التكتيك المشروع في الأيدولوجيات المعاصرة للدول الكبرى، وليس فقط على مستوى الفرد، وإنما على مستوى الجماعات بل والمجتمع بأكمله"( ).

وهكذا بقيم القيم التربوية .. حيث إن الاختلاف بين الإسلام والفلسفة المادية في المنطلق العقائدي، كان له أثره الحتمي على خصائص القيم المنبثقة عن كل منهما. فبينما القيم في الإسلام يطبعها الثبات والعمق والوحدة، فإن القيم المادية لا تنعم بأية خاصية من تلك الخصائص، ولذلك فإننا نجد المجتمعات الغربية المعاصرة " تكيل بمكيالين، وتتعامل بوجهين، وتطبق الدساتير العادلة داخل بلادها دون أن تستخدمها في مستعمراتها"( ).

وإذا كان الإسلام يتسم في نظرته إلى الإنسان بالواقعية، التي يأخذ بموجبها كل أبعاد الإنسان الحيوية بعين الاعتبار والتقدير، فإن المذاهب المادية التي حفل بها المجتمع المعاصر، كثيراً ما سقطت في الخيال المجنح بعيداً عن الإنسان الواقعي، وما ذلك إلا للجهل المطبق بالإنسان ومكوناته.

إن نظرة الإسلام إلى الإنسان نظرة تكريمية، تعتبره خليفة في الأرض، مفضلاً على كل ما فيها من كائنات .. أما النظرة المادية فهي تهدر كرامة الإنسان وتمرغها في الأوحال، فهو عندها لا يعدو أن يكون فصيلة من فصائل الحيوان.

وإذا كانت المذاهب المادية المعاصرة تنحو منحى متطرفاً في تعاملها مع الكيان البشري، بحيث أنها تضرب على أوتار المادية الغريزية، وتكبت فيه أشواقه الروحية، فإن الإسلام يحقق توازناً رائعاً بين مطالب المادة والروح، بحيث لا نجد أدنى تناقض بين القيم ذات الوجه المادي، والقيم ذات الوجه الروحي.

إن الإسلام يربط الأخلاق بالشرع، فالشرع هو الذي يحسّن ويقبح، وليست الأخلاق متروكة للإنسان ينظر فيها بعقله، لأنه فضلاً عن كونه بطبيعة آفاقه المحدودة، عاجز عن العثور على نسق شمولي يستجيب لحاجات الإنسان وتطلعاته الحضارية، فضلاً عن ذلك، فإن نسقه ذاك حتى وإن كان فيه قدر من الصواب، فإنه يظل جسداً راكداً لا حياة فيه.

فالعقيدة هي التي تبعث الحياة في القيم، إذ هي تحفز الفرد إلى الفعل أو الترك. إذا كانت الأخلاق على هذه الصورة في الإسلام، فهي في الغرب أخلاق نظرية باردة تفتقد إلى المحرك الذي يصلها بقلب الإنسان ووجدانه( ).

إن الإسلام يربط ربطاً محكماً بين العقيدة والعبادة والأخلاق، فالعقيدة الصحيحة لابد أن تعبر عن نفسها في العبادة الخاشعة الصادقة، وهذه لابد أن تؤدي إلى ممارسة الفضائل الأخلاقية، فهي (أي العبادة) ما لم تثمر الأخلاق الفاضلة من أمانة وصدق وإخلاص وحب وإيثار وبر، فلا قيمة لها.

إن أول شيء تثمره القيم التربوية الإسلامية في البناء الشخصي للإنسان المسلم هو تقوية صلته بالله عز وجل، إلى الدرجة التي تجعله يراقبه في السر والعلن، في كل حركاته وسكناته، فهو لا يقدم على شيء إلا وهو يراعي حرمة الله ويرجوا له وقارا. ومعنى ذلك أن المسلم في علاقته مع ربه، يستشعر الخشية والخوف منه، في نفس الوقت الذي يتوجه إليه بالرجاء.

وهذه الخصائص الشخصية الممتازة هي وحدها التي تفسر سر ذلك الانطلاق الهائل الذي حققه الإنسان المسلم في كل ميدان من ميادين الحياة العلمية والإنتاجية، وتفسر لنا مدى الالتزام بمبدأ الاتفاق في العمل، والحرص على اجتناب قبائح النفس ورذائل السلوك.

إن أثر القيم الإسلامية في الشخصية لا يخص جانباً من جوانب النفس دون الأخرى، بل إنه ليهيمن عليها حتى لا يدع دقيقة من دقائقها، إن تلك القيم الشاملة لا تجعل المسلم صدقاً في معاملاته وممارساته الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية، متعاوناً فيها على البر والتقوى، عفيفاً معتدلاً في تعامله معها وحسب، ولكنها لتنفذ إلى أعماق نفسه فتغرس فيها رهافة في الحس وشفافية في الذوق والضمير.

هكذا يتضح لنا الأثر البناء الذي تتركه القيم التربوية الإسلامية في الشخصية الإسلامية الإنسانية، بحيث تصوغها صياغة ربانية تمس كل موطن من مواطنها، وتهز كل وتر من أوتارها، لينخرط الإنسان بكل كيانه وطاقاته في رفع البناء الذي أمره الله برفعه على هدى من الله.

5- أزمة القيم وإشكالية التخلف الحضاري:

ظلت الأمة الإسلامية متماسكة البناء الحضاري، متألقة في سماء الإبداع والعطاء، ممثلة نموذجاً فذاً للنظام الذي يحقق للإنسان إنسانيته، ويحفظ له كرامته، ويضمن له فعالية مطردة في مجالات التقدم، ولم يتحقق هذا إلا بفضل ذلك المنهج الحضاري الشامل.

ولكن أتى عليها حين من الدهر، وجدت نفسها وقد ولى عنها ذلك المجد الزاهي، فرجعت القهقري، وبتعبير آخر تخلفت وتأخرت، وحلت بها أزمة.

والواقع أننا عندما نحكم على أمة بالتخلف، لابد لنا من مقياس نستند إليه في ذلك الحكم، ولكن الذي ينبغي أن ينعقد عليه يقيننا، أن ذلك المقياس ليس هو إطلاقاً نموذج الغرب وحضارته المادية، وإنما هو النموذج الإسلامي المتكامل الذي تجسد على أرض الواقع ردحاً من الزمان، وأشع بأنواره على البشرية كلها، ولا يزال إلى الآن وإلى الأبد مثالاً ترنو إليه الأبصار والعقول، التي تدرك المعنى الحق للحضارة والتقدم.

والسبب في ذلك هو أن النموذج الغربي قد قام على أساس مادي صرف، وعلى رؤية مبتورة لمفهوم التقدم مشتقة من رؤيته للكون والحياة والإنسان، وهي رؤية لا تحتل منها القيم الأخلاقية والفضائل التي تسمو بحياة الإنسان وتميزه عن الحيوان حيزاً يذكر.

ومن هنا وجب تحرير عقول المسلمين من ذلك الاقتران الخطير الذي درجت على استساغه، وهو الاقتران بين التقدم ومجتمع العرب، غافلين عن أن ذلك الطراز إذا وضع في ميزان الإسلام، سيكون مصيره الرفض، لأنه يهتم بإشباع حاجات الإنسان المادية، ويخنق فيه حاجاته الروحية، وهو في النتيجة والمآل سينعكف على منتجاته المادية ويدمرها تدميراً، في غياب الحصن الأخلاقي الذي يحمي مكاسب الإنسان الحضارية ويصونها من الفساد.

ومن هنا فإننا عندما نتحدث عن التخلف الحضاري للأمة العربية الإسلامية، فلا يخطرن ببال أصحاب العقول الراجحة أننا نقيس الأمة الإسلامية على الحضارة الغربية، بل إننا نصف الأمة الإسلامية بالتخلف ونحن على يقين أن من أهم أسباب تخلفها الجري وراء نموذج الغرب ومحاولة الاقتداء به، والسير في ركابه ورؤية الحياة كما يراها هو، والاصطباغ بصبغته المادية التي حولت الإنسان إلى بهيمة سائمة، بل أضل سبيلا( ).

إن النتيجة الحتمية التي نحصدها من جراء الدوران في فلك الغرب هي التأرجح والمراوحة، " فلا نحن أبقينا صلاتنا المختلفة المنسجمة مع الماضي، تحت مظلة السنن الكونية للتطوير في ميزان المنطق والعلم، ولا نحن حققنا شيئاً من أمنيات اللحاق بنهضة تشبه نهضة الآخرين، بل بقينا نتهارج ونتخاصم في سجن هذا المنعطف الثقيل .." ( ).

لقد كان فقدان الأخلاق سلطانها على النفوس في مجتمعنا الإسلامي كانت هي قاصمة الظهر التي أحدثت شرخاً مهولاً في البناء الاجتماعي، أي أنها علة مباشرة في التخلف الذي نعاني منه.

كما أن الفرقة التي عصفت رياحها العاتية ببناء الأمة الإسلامية تعود إلى غرس خبيث ألقى الاستعمار بذوره في تربة المجتمع المسلم، وهو غرس الأنانية وحب الذات، الذي جعل الفساد والتصدع والانفكاك يدب في أوصال المجتمع.

أما الوسائل والقنوات التي استخدمها الاستعمار لتمرير مفاهيمه وتنفيذ برنامجه التخريبي، فإن أول وسيلة أمامنا هي التعليم والإعلام، حيث استخدمها في غسل العقول وإفراغها تماماً من شحناتها الإسلامية التي تربطها بالعقيدة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وملئها بشحنات جديدة تقيم رباطاً مشوها بينها وبين حضارة الغرب، يتمخض عن نماذج بشرية غريبة.

وهكذا تمكن الاستعمار من خلال نظامه التعليمي، أن يطمس معالم الوعي الإسلامي ويبلد الحس الإسلامي في نفوس الأفراد من خلال( ):

1- إضعاف روح الاعتزاز لدى المسلم، وإحلال محلها الشعور بالنقص إزاء الغرب، والسعي إلى التغيير – إذا وجد هذا السعي – وفقاً للمفهوم الغربي.

2- بث النزعة الليبرالية التي تتنافى مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أعظم ضابط لحياة المجتمع.

3- محاولة الاستعمار إسقاط بعض القيادات الفكرية في شباكه، واتخاذها معاول لإحداث الخرق، بل لتعميقه داخل البنيان الاجتماعي المسلم.

هذه بعض أسباب ونتائج ومظاهر أزمة التخلف الحضاري في المجتمع الإسلامي، وقد تبين لنا أن البناء الحضاري بدأ يتآكل نتيجة لنسف أسسه العقدية وما يرتبط بها من قيم تربوية تقوم عليها الشبكة الاجتماعية المتماسكة.

6- سبيل الخروج من أزمة التخلف:

إن المجتمع المسلم لم يترك وشأنه يقرر مصيره بنفسه، ويحل مشاكله بمحض إرادته المستقلة، وإنما وقع – بفعل الإرث الثقيل الذي خلفه المستعمر وراءه – تحت طائلة الضغوط والتأثيرات التي مارستها القوى الاستعمارية، من خلال تلامذتها الذين ربتهم على أعينها وأكلأتهم برعايتها، بحيث شكل هؤلاء قوة أو طابوراً موصولاً بمراكز القرار الاستعمارية، أقحم نفسه في عملية إيجاد الحل لمعضلة التخلف والركود التي يعاني منها المجتمع المسلم.

فالحلول المطروحة غريبة كل الغرابة عن تاريخ وكيان المجتمع المسلم، بل عن الإنسان من حيث هو إنسان وفطرته السليمة. وهي إنما طرحت لتبدد طاقة الأمة وتهددها في التناقضات، وهي – أي الأمة – التي قام وجودها خلال التاريخ الطويل على أساس فلسفة التوحيد التي تلم الشمل، وتوحد القوى في وجهة واحدة موحدة الأهداف.

ومن هنا يتبين لنا أن السر في إخفاق الحلول المستوردة في المجتمع المسلم، هي تلك الفجوة بل الهوة العميقة بينه وبين الغرب على المستوى النفسي والحضاري، بحيث إن الأيديولوجيات الغربية لم تستطع أن تنفذ إلى صميم أفراد المجتمع وتحرك كوامنهم، لأنها لم تخاطب الإنسان في جميع أبعاده. لقد خاطبت عقله دون أن تخاطب وجدانه وروحه، وقدمت له برامج اجتماعية دون أن تقدم له أجوبة مقنعة حول أسئلته الوجودية وأحواله الشخصية وعلاقته الأسرية والتزاماته الأخلاقية، وألزمته بالنضال الخارجي دون أن يكون لها سلطان على خلجان نفسه وأشواق روحه.

إن الأيديولوجيات الغربية كان لابد أن تسقط وتلاقي الإخفاق لدى احتكاكها بالمجتمعات العربية الإسلامية، لأنها تفتقد لشروط ومقومات النجاح وهي( ):

أولاً: الإقناع الفكري الذي يستجيب لتطلعات الإنسان إلى المعرفة الحقة، حول القضايا الوجودية التي تقرر مصير الإنسان في الحال والمآل، والذي لن تهدأ له نفس ولن يرتاح له ضمير في ظل حرمانه من الحصول على أجوبة شافية عنها.

ثانياً: منهج تغيير اجتماعي كفيل بتحقيق متطلبات الإنسان من الحرية والعدل والمساواة والكرامة، بما يتوافق وينسجم مع الأسس العقدية المناسبة لفطرة الإنسان.

إن هذين الشرطين لنجاح العقيدة في استنفاد طاقات الإنسان ودفعها في المسار الإيجابي، ليس لهما وجود في غير الإسلام، دين الله المنزه عن التحريف والتبديل، ففي ظل الإسلام وحده يرتبط منهج التغيير الحضاري بالعقيدة التي تأخذ بجماع كيان الإنسان، وتحول عنده مسألة الجهاد في سبيل تحقيق التقدم والازدهار إلى التزام بالعقيدة، يعتبر الإخلال به إخلالاً بمقتضياتها( ).

فالذي ننتهي إليه من خلال ما سبق هو التأكيد على القناعة الراسخة في وجدان وعقل كل مسلم حق، وهي أن لا سبيل إلى البعث الحضاري المنشود في غياب المنهج الإسلامي في البناء.

إن المجتمع المسلم مطالب بالإعداد الواسع النطاق لبناء الشبكة الاجتماعية من جديد، أي لجعله يعيش المرحلة الأولى من المراحل التي يمر بها المجتمع التي تحدث عنها مالك بن نبي، وهي المرحلة الروحية التي تكون فيها العلاقات الاجتماعية في أكثر حالاتها كثافة، لا في أكثرها امتداداً. هذه الكثافة التي يعبر عنها القرآن الكريم بعبارة (البنيان المرصوص) في قوله تعالى  •          •  ( ).

وهذه المرحلة تتميز بتوظيف جميع قوى المجتمع، وتكون هذه الأخيرة في تصاعد مستمر، وتقضي من طريق هذا المجتمع، خلال هذه المرحلة كل عناصر التقاعس والتثبيط( ).

والخطوة الأولى في سبيل البعث الحضاري، ومعالجة التخلف الذي يطبق على الأمة الإسلامية هي: تصحيح العقيدة وتقويتها في نفوس المسلمين، حتى ينتج عنها ما تقتضيه من تأثير على كل ميادين الحياة، وترتبط بتصحيح العقيدة تبصير الإنسان المسلم والجماعة المسلمة بوظيفتهم في الحياة لكي لا تتحول حياتهم إلى عبث.

ذلك أن "العالم الإسلامي اليوم إنما يعاني من وطأة تخلفه هذا، بسبب الغشاوات والحجب الكثيفة التي أسدلت على بصيرته فأقصته عن معرفة حقيقة الإنسان والحياة التي يتمتع بها، والدنيا التي تطوف من حوله، وعن معرفة المهمة التي خلق الإنسان للنهوض بها في هذه الحياة"( ).

إن تعريف المسلم بهذه الأمور الأساسية، يجعله في منجى من التأثيرات المدمرة، التي تنبعث، بل تتدفق كالسيل، من التيارات الأجنبية التي تتصارع من حوله، ويكسبه الميزان الدقيق الذي يزن به الغث والسمين، ويميز بين الحق والباطل.

والخطوة الثانية في طريق الخروج من التخلف: تتجسد في تصحيح القيم الخلقية التي اكتسبت خلال عصور الانحطاط طابع السلبية والتثبيط، فنتيجة لأوضاع التخلف أخرجت كثير من القيم الإسلامية عن مفهومها الحق.

فالصبر وهو قيمة إسلامية عظيمة الشأن، تحول إلى دعوة للخنوع واستساغه للمذلة والطغيان، بدلاً من الصبر على مشاق العبادة والجهاد ومصاعب بناء الحياة، والصبر على الأذى في سبيل تحقيق المطامح العظيمة للمسلمين، قال تعالى:      •          ( ).

وقس على ذلك مختلف القيم التربوية التي ينبغي أن تأخذ مفاهيمها الصحيحة في ضوء الكتاب والسنة وسيرة الرسول  وصحبه الكرام.



هناك 3 تعليقات:

  1. ابو انس الخليل8 فبراير 2013 في 12:48 ص

    بارك الله فيك طرح موفق و منهجية سليمة

    ردحذف
  2. behia el a3loumet

    ردحذف
  3. جزاك الله كل خير دكتورنا الفاضل

    ردحذف