الخميس، 13 يناير 2011

التربية السلوكية ووسائل صلاح النفس













أولاً: التربية السلوكية

يرى علماء التحليل النفسي أن للنفس مظاهر ثلاثة: أولها: الهوى وهو مجموع الغرائز والرغبات والشهوات. وثانيهما: الأنا وهو العقل الذي يحاول المواءمة بين غرائز ورغبات النفس، والمعايير الدينية والأخلاقية والاجتماعية. وثالثهما: الأنا الأعلى وهو الرقيب الأعلى أو سلطة الضبط الداخلية أو الضمير الذي لا يسمح للإنسان بارتكاب الأخطاء والمعاصي التي لا يقرها الدين والعقل والأخلاق والمجتمع، وهو مصدر سعادة الإنسان برضاه عن أفعاله المحمودة، ومصدر تعاسته بندمه عن أفعاله المذمومة ( ).

وهذه المستويات الثلاثة للنفس، قد توجد عند إنسان واحد في حالات متغيرة، عندما يخضع لمطالبه ورغباته وشهواته، أو عندما يعمل عقله في التكييف بين مطالبه والأحكام الدينية والقيم الخلقية والعرف والتقاليد والعادات الاجتماعية، أو عندما يشعر براحة النفس الناجمة عن أفعاله الخيرة وسلوكه المحمود، أو يشعر بعذاب النفس الناتج عن أعماله الشريرة وسلوكه المشين.

وقد توجد هذه المظاهر بين الناس وتميز بينهم، فهذا شخص تتحكم فيه شهواته ورغباته فهو أسيرها لا يستطيع الفكاك من قيدها، وهذا شخص ثان يضبط نفسه ويتحكم في مطالبها، ويعمل على إشباعها بالطرق السوية المشروعة، وهذا شخص ثالث يزكي نفسه ويتسامى بخلقه، ويرتفع بسلوكه عن كل الصغائر والدنايا، ويستمع دوماً إلى صوت ضميره الداخلي، ويلتزم التزاماً ذاتياً وأخلاقياً في كل تصرفاته، ويحس برقابة الله تعالى عليه وحضوره معه ويراعيه في كل حركاته وسكناته.

والسنة النبوية المطهرة لا تنكر هذا التحليل النفسي للسلوك البشري بل تقره وتسبق إليه، وتجعله وسيلة لتهذيب النفس وسعادتها، والموازنة العادلة بين حاجاتها الجسدية وشواغلها الروحية والملاءمة بين رغبات الفرد ومطالب الجماعة، وضبط الغرائز والدوافع والحاجات الفطرية والنفسية والاجتماعية وإشباعها وفق ما تقره أحكام الشريعة السمحاء، ومعايير الأخلاق الفاضلة، وغايات المجتمع البناءة.

ولذلك فقد وجهتنا السنة النبوية المطهرة إلى إشباع الغرائز والشهوات الطبيعية بالطرق المشروعة، وعدم إطلاق العنان لها، وجعلها تتحكم في مشاعر الإنسان وسلوكه، لأن الإسراف فيها، وإشباعها بغير حقها فيه مضار خطيرة للفرد والجماعة.

وهذه هي التي تسمى بالنفس الأمّارة – التي تقابل الهوى – في التربية المحمدية، وإذا اتبع الإنسان هواه خسر دينه ودنياه.

قال تعالى:       • • •       •    ( ).

وعن أبي هريرة  قال: كان من دعاء النبي  : " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع"( ).

كما وجهتنا السنة النبوية إلى إصلاح النفس، وتطهيرها وضبط الذات، ولا يتم ذلك إلا بالنقد الذاتي، وإظهار الندم عن الأفعال المشينة، واستغفار الله عز وجل، وحسن التوبة إليه، والعزم على عدم العودة إلى الشرور والمفاسد والمعاصي والفواحش.

وهذا ما تسميه التربية النبوية بالنفس اللوامة التي تقابل الأنا، وإذ اتبعها الإنسان ضمن إلى حد كبير الرجوع عن الغي، وكبح جماح النفس، والملاءمة بين رغباتها ومطالبها والمعايير والقيم الدينية والخلقية والاجتماعية.

قال تعالي:         •  ( ).

وعن زيد بن أرقم قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله  يقول، كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا تستجاب "( ).

وعن فروة بن نوفل الأشجعي، سألت عائشة عما كان رسول الله  يدعو به الله، قالت: كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل"( ).

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله  : " يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم مائة مرة "( ).

وعن أبي موسى  قال: قال النبي  : " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر، مثل الحي والميت "( ).

ووجهتنا السنة النبوية كذلك إلى أن الاطمئنان الروحي، والسكينة النفسية وراحة الضمير وبلوغ السعادة، يتم بالعبودية الخالصة لله تعالى، واليقين به، وحسن التوكل عليه، والإنابة إليه، والتقرب إليه بالطاعات، ومراعاته في السر والعلن، والإحساس الدائم برقابته وحضوره.

وهذا ما تسميه التربية المحمدية بالنفس المطمئنة، وهو ما يقابل الأنا الأعلى، بل إن تعريف السنة النبوية أدق وأشمل في التربية السلوكية. قال تعالى:   • •      •       •  ( ).

وقال رسول الله  في تعريف الإحسان: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "( ).

وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : " يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلىَّ ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"( ).

وعن عمر بن الخطاب  ، قال: قال رسول الله  : " لو أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً"( ).

وعن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله  يوماً، فقال: " يا غلام، إن أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"( ).

ثانياً: وسائل صلاح النفس وتقويمها

ولكي تتم التربية السلوكية على نحو سليم يعكس استقامة النفس وطهارتها وترقية أخلاقها والسمو بها، وضبطها لرغباتها وشهواتها دون إماتتها – وإلزامها بالأحكام والقواعد الدينية، والقيم والمعايير الخلقية، لا بد من اتباع عدة وسائل تقويمية وإصلاحية " للنفس " تقيها شرور الاندفاع في تيار الشهوات والفساد والضلال في غفلة حينا، وفي ضعف حينا آخر وتعيدها إلى حضيرة الإيمان والعفة والاستقامة والصلاح.

ومن أهم وسائل صلاح النفس وتقويمها نذكر: النقد الذاتي، والضبط الذاتي، والتقويم الذاتي. وهذه الوسائل وإن كانت تعتمد على التوجيهات الروحية، والقيم الخلقية، والمعايير الاجتماعية، إلا أننا رأينا إبراز دور الفرد نفسه فيها بمبادئه الذاتية، وإحساسه بالمسئولية، والتزامه الخلقي النابع من ذاته لا المفروضة عليه من سلطة خارجية، حتى يتمثل ويلتزم بكل الأوامر والنواهي والتعاليم والتوجيهات التي جاءت بها الدعوة المحمدية الخاتمة الموجهة إلى البشرية قاطبة بما يصلح أحوالها، وينقذها من ضلالها، ويهديها إلى سبيل الرشاد حيث تنال السعادة في الدارين.

ومن وسائل إصلاح النفس وتقويمها ما يلي:

1- النقد الذاتي:

لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بالعقل والحواس، وخصه بها دون سائر المخلوقات على نحو يمكنه من الفهم والإدراك وإصدار الأحكام الصائبة، والتمييز بين الأشياء حسنها وقبيحها، خيرها وشرها، نافعها وضارها.

كما أنعم على الإنسان بالإرادة القادرة الحرة المختارة، وحمله بذلك "المسئولية" كاملة عن أقواله وتصرفاته ومواقفه واتجاهاته. ومن العدالة أن يتحمل الإنسان مسؤولياته عن أقواله وأفعاله ومواقفه وأحكامه ما دام حراً مختاراً ذا قدرة وإرادة، ولابد للإنسان كي تستقيم حياته الفردية والاجتماعية من أن ينمي قدرته على النقد الذاتي بتقويم نفسه، ووزن أقواله وأفعاله ومواقفه وأحكامه ما دام حراً مختاراً ذا قدرة وإرادة، ودراسة الأسباب التي دفعته إلى ارتكاب الخطايا، والوقوع في المعاصي التي يحرمها الدين، ويمنعها العقل، وترفضها الأخلاق ويستنكرها المجتمع.

وكلما نما النقد الذاتي لدى الإنسان كلما دل على عقلية ناضجة متفتحة، ونفس نقية صافية، وإن لابستها الشوائب الطارئة فسرعان ما تعود إلى حياة الاستقامة والعفة( ).

والسنة النبوية المطهرة تدعو إلى تنمية القدرة على النقد الذاتي الذي يقود المخطئ والمسيء إلى مراقبة نفسه وتفطنه إلى عيوبه ونقائصه، واعترافه بزلاته وانحرافه، وإظهاره لندمه عن أفعاله المذمومة وخطاياه ومعاصيه، واستغفاره لربه تعالى عنها، وحسن توبته إليه والإسراع بها وصدق عزمه على عدم العودة إلى حياة الفساد والضلال.

عن أبي هريرة  قال سمعت رسول الله  يقول: " والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة "( ).

وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : " من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه "( ).

وعن أنس  قال: قال رسول الله  : " الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة …"( ).

وعن شداد بن أوس عن النبي  قال: " سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بك من شر ما صنعت. إذا قال حين يمسي فمات دخل الجنة، أو كان من أهل الجنة، وإذا قال حين يصبح فمات من يومه مثله"( ).

وعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: " يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الأخير يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له "( ).



2- الضبط الذاتي:

من أهم النتائج الإيجابية للنقد الذاتي الناضج قدرة الإنسان على ضبط ذاته، وذلك بالتحكم في أهوائها ونوازعها، وكبح جماح شهواتها وغرائزها، وردها عن غيها، وكشف حجاب غفلتها، وإرجاعها إلى جادة الهدى والطهر والعفاف.

وللضبط الذاتي فوائد جمة للفرد والمجتمع: فهو بالنسبة للفرد مصدر احترام وتقدير وتوقير الآخرين، لأنه يجعله يرتفع عن السفاسف والدنايا ويصحح أخطاءه، ويقوّم عيوبه، ويسعى دوماً إلى طلب رضا الخالق عز وجل وحسن عبادته وطاعته، والالتزام بالقيم الروحية، والفضائل الخلقية والآداب الاجتماعية، يشبع رغباته وحاجاته الفطرية بالطرق السوية وفي غير إسراف، ويكيف مطالبه مع مطالب المجتمع ونظمه وقوانينه، فلا تدفعه الأثرة والأنانية وحب الذات إلى بناء سعادته على شقاء الآخرين، وهو بالنسبة للمجتمع مصدر تماسك وتلاحم وتظافر بين أعضاء ضابطين لذواتهم، شاعرين بمسؤولياتهم حيال مجتمعهم، يسهمون في بنائه، ويحفظون كيانه، آمرين بالمعروف وملتزمين به، ناهين عن المنكر وتاركين له، مدركين لأمانة الاستخلاف وثقل أعبائها، حريصين على الرفع من أنفسهم وفق الاستطاعة، مؤمنين بأن الفرد للجماعة كالبنيان يشد بعضه بعضاً.

وقد وجهتنا السنة النبوية إلى تنمية القدرة على الضبط الذاتي للنوازع والدوافع والرغبات والشهوات والعواطف والانفعالات، وذلك لأن الضبط الذاتي هو مصدر التوازن والاعتدال والسعادة في حياة الفرد والجماعة.

عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: " ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب"( ).

وعن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن رجلاً أتى إلى رسول الله  فقال: يا رسول الله: علمني كلمات أعيش بهن ولا تكثر علىّ، فأنسى. فقال رسول الله  : " لا تغضب "( ).

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله  : " حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات "( ).

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله  : " من ترك الكذب وهو باطل، بني له في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق، بني له في وسطها، ومن حسن خلقه، بني له في أعلاها "( ).

وقال رسول الله  " الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله"( ).

وقال رسول الله  : " الحلال بين والحرام بين، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك"( ).

وعن صهيب قال: قال رسول الله  : " عجباً لأمر المؤمن ? إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له "( ).

3- التقويم الذاتي:

لا شك أن نضج قدرة الإنسان على النقد الذاتي الواعي الرشيد، واكتمال قدرته على الضبط الذاتي المتوازن العادل، يساعده على تقويم ذاته، وإصلاح عيوبه وترقية أخلاقه، وترك سبيل المفاسد والمعاصي والشرور وإن كانت تحقق له لذة مادية آنية، والعودة إلى سبيل الهدى والتقوى والصلاح باتباع أوامر الشرع الحكيم واجتناب نواهيه، والتقيد بالفضائل والمكارم الخلقية والقيم والآداب الاجتماعية التي تجعله يتذوق السعادة الحقيقية بما تشيعه في نفسه من طمأنينة وسكينة وراحة ضمير، وثقة ويقين في عون الخالق عز وجل ونيل رضاه ورحمته، وشعور باحترام الآخرين وتقديرهم وقبولهم، ولذلك يكون التقويم الذاتي النابع من الفرد مصدر صلاحه في دينه وخلقه، وفلاحه في عمله وعلاقاته، وسعادته في حياته الفردية والاجتماعية، ورجائه في رحمة ربه وغفرانه ونيل جنانه.

وقد دعتنا السنة النبوية إلى تنمية قدرتنا على التقويم الذاتي، وإصلاح عيوبنا بأنفسنا، والرجوع عن أخطائنا ومعاصينا، وفتحت أمامنا باب التوبة والغفران ورحمة ربنا الغفور الرحيم، وحثتنا على مبادرتنا الذاتية وتقوية إرادتنا، وصدق عزمنا على تأديب نفوسنا وتزكيتها، وترقية أخلاقنا والسمو بها حتى نتحصن من التردي في مهاوي الشهوات والرذائل، والشرور والمفاسد، والمعاصي والذنوب والغي والضلال.

عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله  يقول: " المجاهد من جاهد نفسه "( ).

وقال رسول الله  : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "( ).

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله  : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر "( ).

وقال رسول الله : " إن الله تعالى يحمد على الكيس، ويلوم على العجز، فإذا غلبك الشيء فقل حسبي الله ونعم الوكيل"( ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق